وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ
الْبَقَرَةِ: 217 فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لِبَيَانِ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، فَقَالَ:
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ أَيْ مَنِ اسْتَحَلَّ دَمَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَاسْتَحِلُّوهُ فِيهِ وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ أَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْكُمْ عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُنَا عَنْ مُقَاتَلَتِكُمْ، فَالشَّهْرُ الْحَرَامُ مِنْ جَانِبِنَا، مُقَابَلٌ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنْ جَانِبِكُمْ، وَالْحَاصِلُ فِي الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ حُرْمَةَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَمَّا لَمْ تَمْنَعْهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، فَكَيْفَ جَعَلُوهُ سَبَبًا فِي أَنْ يَمْنَعَ لِلْقِتَالِ مِنْ شَرِّهِمْ وَفَسَادِهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَالْحُرُمَاتُ جَمْعُ حُرْمَةٍ وَالْحُرْمَةُ مَا مُنِعَ مِنِ انْتِهَاكِهِ وَالْقِصَاصُ الْمُسَاوَاةُ وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعُودُ تِلْكَ الْوُجُوهُ.
أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرُمَاتِ: الشَّهْرُ الْحَرَامُ، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام فقوله:
الْحُرُماتُ قِصاصٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَضَاعُوا هَذِهِ الْحُرُمَاتِ في سنة ست فقد وقفتم حَتَّى قَضَيْتُمُوهُ عَلَى زَعْمِكُمْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ.
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ: إِنْ أَقْدَمُوا عَلَى مُقَاتَلَتِكُمْ فَقَاتِلُوهُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا، قَالَ الزَّجَّاجُ:
وَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَهِكُوا هَذِهِ الْحُرُمَاتِ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ/ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ الْبَقَرَةِ: 191 وَبِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ.
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: فَقَوْلُهُ: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ يَعْنِي حُرْمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّهْرَيْنِ كَحُرْمَةِ الْآخَرِ فَهُمَا مِثْلَانِ، وَالْقِصَاصُ هُوَ الْمِثْلُ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْكُمْ حُرْمَةُ الشَّهْرِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ فَكَيْفَ يَمْنَعُنَا عَنِ الْقِتَالِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْأَمْرُ بِمَا يُقَابِلُ الِاعْتِدَاءَ مِنَ الْجَزَاءِ وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَقَابِلُوهُ، وَالسَّبَبُ فِي تَسْمِيَتِهِ اعْتِدَاءً قَدْ تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ:
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّقْوَى، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أَيْ بِالْمَعُونَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا فِي مَكَانٍ إِذْ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْآخَرِ أَوْ يَكُونَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ وَبَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ علوا كبيرا.
سورة البقرة (2) : آية 195وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
قوله تعالى وأنفقوا في سبيل الله اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْقِتَالِ لَا يَتَيَسَّرُ إِلَّا بِالْآلَاتِ وَأَدَوَاتٍ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الْمَالِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذُو الْمَالِ عَاجِزًا عَنِ الْقِتَالِ وَكَانَ الشُّجَاعُ الْقَادِرُ عَلَى الْقِتَالِ فَقِيرًا عَدِيمَ الْمَالِ، فَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَغْنِيَاءَ بِأَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى الْقِتَالِ وَالثَّانِي:
يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ البقرة: 194 قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا زَادٌ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُطْعِمُنَا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْ