وقد قُمت بمقابلة المختصر مع القطعة المتبقية من الأصل، وظهر لي من خلال المقارنة عدد من الحقائق المهمة:
" أن قدر ما اختصره من الأصل كان كبيرا ربما بلغ نصف الكتاب أو زاد عليه.
" وقع أكثر الاختصار، على سبعة أمور، شكلت مجتمعة جُلَّ الاختصار، إن لم يكن كله، وهي:
١. حذف أسانيد الأحاديث والروايات.
وهذا ـ في الحقيقة ـ بلغ نسبة كبيرة من الكتاب، فإذا نظرنا إلى كثرة الأحاديث والآثار في مختصر القشيري التي ساقها بغير إسناد، وتصورناها وردت مسندة في كتاب القاضي إسماعيل، سندرك حجم الاختصار الذي حصل بحذف تلك الأسانيد، وقد أشار إلى هذا أبو الفضل عند بيانه لطريقته في الاختصار على ما تقدم.
على أن هذا الحذف وإن كان السمة الغالبة، لهذا الاختصار، فقد بقيت بعض الآثار والأحاديث في المختصر، على حالها بسند القاضي إسماعيل، وهي قليلة جدا في مقابل ما حذف من الأصل.
٢. اختصار الروايات في المعنى الواحد.
اعتنى القاضي إسماعيل بآثار السلف، حيث أكثر من ذكر الروايات عنهم في معاني الآيات، وربما اجتمع له في المعنى الواحد للآية آثار كثيرة عن السلف، فكان يذكرها بتمامها وإسنادها، فعمد أبو الفضل إلى تلك الروايات المتفقة في المعنى فأورد المعنى ونص على من قال به من السلف، دون ذكر لفظ رواياتهم، اكتفاء بما قدمه من بيان المعنى، وهذا أخذ قدرا كبيرا من الاختصار، ومثال ذلك عند قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (١)، فقد حكى القشيري الخلاف في تزويج الزانيين، وفيه قال: " ومنهم من رأى التزويج صوابا، وزَوَّجَ الزانيين ورأى الجمع بينهما بالنكاح، منهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعلقمة، وجماعة من المفسرين" (٢) وقد اكتفى بتسمية من قال به، دون ذكر نص الروايات عنهم، وبمقارنة ذلك بالقطعة المتبقية من الأصل، ندرك مدى الاختصار الذي حصل بصنيعه هذا، حيث إن جميع من ذكرهم القشيري من الصحابة والتابعين والمفسرين، قد أسند عنهم القاضي إسماعيل روايات تدل على مضمون ما أشار إليه.
وقريبا من هذا أن يذكر رواية عن أحد السلف، ثم يقول: وبنحوه قال فلان وفلان، فيذكر عددا من السلف قالوا بمعنى تلك الرواية.
٣. اختصار لفظ الرواية.
قد تكون الرواية في الأصل طويلة، فيعمد القشيري إلى اختصارها بذكرها بالمعنى أو بذكر الشاهد منها على محل الاستدلال فقط، ومن الأمثلة الدالة على هذا؛ ما وقع في سورة الممتحنة عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} فإنه لما ذكر حديث صلح الحديبية وما يدل عليه قال: " وطرق هذا الحديث وألفاظه كثيرة، وقد أتيت بالمعنى" (٣).
ومن الأمثلة على ذلك ما وقع للمؤلف عند قوله تعالى: وأما قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (٤) حيث ذكر رواية عن زيد بن أسلم، نصها: " قال زيد بن أسلم: لو بقي التكليف على قوله {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} لكان ما لا يطاق، ولكن الله ـ جل وعلا ـ رحم عباده، فنسخها بهذه الآية" (٥)، وبمقارنة هذه الرواية مع القطعة المتبقية من الأصل، نجد أنها رواية طويلة، اختصرها القشيري.
(١) سورة النور (٣).
(٢) ينظر من هذه الرسالة: سورة النور الآية (٣).
(٣) ينظر من هذه الرسالة: ص ٦٧٢.
(٤) سورة التغابن (١٦).
(٥) ينظر من هذه الرسالة: سورة التغابن الآية رقم (١٦).