ومن ذلك أنك تَرى من العلماء مَن قد تأوَّلَ في الشيء تأويلاً، وقَضى فيه بأمرٍ، فتَعْتَقِدُه اتِّباعاً له ولا تَرتابُ أنه على ما قَضى وتأوَّلَ. وتَبْقى على ذلك الاعتقادِ الزمانَ الطويلَ. ثم يلوحُ لك ما تعلَم به أنَّ الأمر على خِلاف ما قَدَّرَ. ومثالُ ذلك أنَّ أبا القاسم الآمديَّ ذكَر بيتَ البحتريِّ من البسيط:
فصاغَ ما صاغَ مِنْ تِبْرٍ ومِنْ وَرِقٍ
... وحاكَ ما حاكَ من وَشْي وديباجِ
ثم قال "صَوْغُ الغيث وحَوكُه للنبات ليس باستعارةِ بل هو حقيقةٌ. وذلك لا يقال: هو صائغٌ ولا كأنه صائغ". وكذلك لا يقال: هو حائك وكأنه حائك. (قال) على أنَّ لفظ (حائك) في غاية الركاكة، إذا أُخرج على ما أخرجَهُ أبو تمام في قوله من الطويل:
إذا الغيثُ غادى نَسْجَهُ خِلْتَ أنه
... خَلَتْ حُقُبٌ حَرْسٌ له وهو حائك
قال وهذا قبيحٌ جداً. والذي قاله البحتري: (فحاك ما حاك) حَسَنٌ مُستعملٌ. والسببُ في هذا الذي قاله، أنه ذهَبَ إلى أنَّ غرضَ أبي تمام أن يَقْصِدَ (بخلت) إلى الحوك، وأنه أراد أن يقول: (خلتَ الغيثَ حائكا) وذلك سهوٌ منه لأنه لم يقصِد بـ (خلت) إلى ذلك. وإنما قصَد أنْ يقول: إنه يظهر في غداةِ يومٍ من حوْكِ الغيث ونَسْجِه بالذي تَرى العيونُ من بدائع الأنوار، وغرائبِ الأزهار، ما يُتوهَّم منه إنَّ الغيثَ كان في فِعْل ذلك وفي نَسجه وحَوْكهِ حِقَباً من الدهر. فالحيلولَةُ واقعةٌ على كون زمانِ الحَوْكِ حِقبا لا على كونِ ما فعله الغيثُ حَوْكاً، فاعرفْه!
وممَّا يَدْخُل في ذلك ما حُكي عن الصاحب من أنه قال: كان الأستاذُ أبو الفَضْل يختار من شِعر ابن الرومي، ويُنَقِّط عليه. قال: فدفع إليَّ القصيدةَ التي أولها من الطويل:
أتحْتَ ضلوعي جمرةٌ تتَوقدُ
وقال: تأملْها! فتأمَّلْتُها، فكان قد ترَك خيرَ بيتٍ فيها وهُو من الطويل:
بجَهْلٍ كَجَهْلِ السَّيْفِ والسيفُ مُنْتَضى
... وحِلْمٍ كَحِلْمِ السيفِ والسيفُ مُغْمَدُ