{يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} 1.
وقوله: تمشي حال من الأعمار أو جملة مستأنفة مفسرة مؤكدة لقوله: يا ضيعة الأعمار، أي تمر وتذهب باطلة ضائعة، يقال لكل فارغ: سبهلل، وجاء فلان سبهلل أي غير محمود المجيء أي جاء وذهب في غير شيء والله أعلم.
84-
بِنَفسِي مَنِ اسْتَهْدَىَ إلى اللهِ وَحْدَهُ
... وَكانَ لَهُ الْقُرْآنُ شِرْباً وَمَغْسَلا
أي أفدي بنفسي، و"من" موصولة أو موصوفة، ومعنى استهدى طلب الهداية، أي سلك الطريق المستقيم الموصل إلى الله تعالى، والهاء في وحده لله -عز وجل، أو تعود على المستهدى.
فمعناه على الأول: أنه مخلص لله في استهدائه لا يريد إلا الله، وعن الثاني: هو منفرد في ذلك؛ لأنه في زمان خمول الحق وعلو الباطل، والشرب: النصيب.
أي إذا اقتسم الناس حظوظهم كان القرآن العزيز حظه، فيكون القرآن العزيز له شربا يتروى به ومغسلا يتطهر به من الذنوب بدوام تلاوته والعمل بما فيه ولتلذذ بمناجاة منزله به في ظلام الليل، فمغسلا اسم مكان على التجوز أو مصدر على معنى ذا غسل.
85-
وَطَابَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ فَتفَتَّقَتْ
... بِكُلِّ عَبِيرٍ حِينَ أَصْبَحَ مُخْضَلا
طابت معطوف على استهدى، والهاء في عليه وأرضه للمستهدي، وقيل هي في أرضه لله، والمراد بالأرض: المعروفة، وعليه: بمعنى له أي طابت له الأرض التي تحمله لما عنده من الانشراح بسبب صلاح حاله مع الله تعالى، وكنى بقوله: فتفتقت بكل عبير عن ثناء أهلها عليه واغتباطهم به، والعبير: الزعفران وقيل: أخلاط من الطيب تجمع بالزعفران، ومعنى تفتقت: تشققت أو يكون المعنى أن الأرض زكت وكثر خيرها بسبب هذا المستهدي؛ لقيامه بالحق وعمله بطاعة الله من قولك: طابت نفسي على كذا أي وافقتها وطابت الأرض إذا أخصبت، وقيل: الهاء في أرضه للقرآن العزيز استعار للقرآن العزيز أرضا كأن القارئ له حالة تفكره فيه وتدبره لمعانيه كالسالك في أرض تفتقت بكل عبير، يشير إلى كثرة الفوائد الحاصلة له بذلك علما وعملا، ومعنى مخضلا أي مبتلا، كنى بذلك عما أفاض الله تعالى عليه من نعمه بالمحافظة على حدوده.
86-
فَطُوبى لَهُ وَالشَّوْقُ يَبْعَثُ هَمُّهُ
... وَزَنْدُ الْأَسَى يَهْتَاجُ فِي الْقَلْبِ مُشْعِلا
طوبى له خبر أو دعاء والواو في "والشوق" للحال: أي العيش الطيب له في هذه الحالة أي ما أطيب عيشه حين يبعث الشوق همه، والهم هنا الإرادة أي الشوق إلى ثواب الله العظيم والنظر إلى وجهه الكريم يثير إرادته ويوقظها ويحركها مهما آنس منها فتورا أو غفلة، ويجوز أن يكون طوبى له دعاء معترضا، والشوق وما بعده معطوف على ما تقدم من الجمل أي بنفسي من استهدى وطابت عليه أرضه ومن الشوق يبعث همه والأسى الحزن والزند الذي يقدح به النار استعارة له ويهتاج أي يثور وينبعث ومشعلا حال من فاعل يهتاج أي موقدًا، وسبب هذا الحزن المشتعل التأسف على ما ضاع من العمر والخوف من التغير، وفي طوبى بحوث أخر حسنة ذكرناها في الشرح الكبير.