وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثم من علقة ثم من مضغة} فعطف الكل بـ "ثم" ولهذا قال لبعضهم ثُمَّ لِمُلَاحَظَةِ أَوَّلِ زَمَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْفَاءُ لِمُلَاحَظَةِ آخِرِهِ وَبِهَذَا يَزُولُ سُؤَالُ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ وَاحِدٌ وَهُوَ مَعَ أَحَدِهِمَا بِالْفَاءِ وَهِيَ لِلتَّعْقِيبِ وَفِي الْأُخْرَى بِثُمَّ وَهِيَ لِلْمُهْلَةِ وَهُمَا مُتَنَاقِضَانِ
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ هَذَا السُّؤَالَ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فينبئكم بما كنتم تعملون} وفي أخرى، {ثم ينبئكم}
وَأَجَابَ بِأَنَّ أَوَّلَ مَا تُحَاسَبُ أُمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْأُمَمُ بَعْدَهُمْ فَتُحْمَلُ الْفَاءُ عَلَى أَوَّلِ الْمُحَاسَبِينَ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْجَمَاعَةِ إِذَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حق} وَيُحْمَلُ ثُمَّ عَلَى تَمَامِ الْحِسَابِ
فَإِنْ قِيلَ: حِسَابُ الْأَوَّلِينَ مُتَرَاخٍ عَنِ الْبَعْثِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ الْفَاءُ؟ فَيَعُودُ السُّؤَالُ
قُلْنَا: نَصَّ الْفَارِسِيُّ فِي الْإِيضَاحِ عَلَى أَنَّ ثُمَّ أَشَدُّ تَرَاخِيًا مِنَ الْفَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ لَهَا تَرَاخٍ وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَمْ يَدَّعِ أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ إِلَّا الْمُتَأَخِّرُونَ انْتَهَى
وَتَجِيءُ لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ رُتْبَتَيْنِ كَقَوْلِهِ: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زجرا فالتاليات ذكرا} تحتمل الفاء فيه التفاوت رُتْبَةِ الصَّفِّ مِنَ الزَّجْرِ وَرُتْبَةِ الزَّجْرِ مِنَ التِّلَاوَةِ وَيُحْتَمَلُ تَفَاوُتُ رُتْبَةِ الْجِنْسِ الصَّافِّ مِنْ رُتْبَةِ الْجِنْسِ الزَّاجِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَفِّهِمْ وَزَجْرِهِمْ وَرُتْبَةِ الْجِنْسِ الزَّاجِرِ مِنَ الْجِنْسِ التَّالِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَجْرِهِ وَتِلَاوَتِهِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلْفَاءِ مَعَ الصِّفَاتِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ترتيب معانيها في الوجود كقوله: