وقال: يا رسول الله، أو أُسأل عن مثاقيل الذّرّ من أعمالي، قال له - عز وجل -: يا أبا بكر، ما رأيته في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذَرِّ الشر ويَدَّخِر لك الله مثاقيلَ ذرِّ الخير. . . إلى آخره.
فانظر بكاء المشهود له بالجنة على نفسه، وخَوْفه من ذنوبه مع أن الله بشَّره
بشفاعته في عدد ربيعة ومُضَر من هذه الأمة، وأنت تريد اللحوقَ بهم مع عدم خوفك وبكاك، وكثرة أوزارك محيطة بك، ما يكون جوابك إذا قيل لك: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) ، فما أعظمها من كربة إذا حملْتَ حُزمة سيئاتك، وصرت تقرؤها بين يدي ربك، وما مثلنا إلا كحاطبٍ يجمع كلً ما يَلْقَى، فإذا جاء يرفعها لم يقدر عليها، وقد أخفى الله غضبه في معاصيه، فلا تحقرن منها شيئاً، فإنها عند الله بمكانٍ، وكلّ ما صغر في عينك عظيم عند الله.
قال الفضيل بن عياض: أتاني رجل، فقال: عِظْني، فقرأتُ عليه: (إذا
زُلْزِلَت) ، فغاب مدةً ثم أتاني، فقلت له: أين غَيْبَتُك، قال:
كنْتُ مشغولاً بتحقيق الحساب الذي علَّمْتَني، فقلت له: وما هو، قال: (فمَنْ يعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خيرًا يره) .
ورئي بعض المشايخ وقد بلغ جدَاراً، وكان في زمن الشتاء، وهو يتصببُ عرقاً فسئل عن ذلك، فقال: أخذتُ من هذا الحائط قطعةَ طين غسل يده بها ضيفٌ، ولم أستحل من صاحبه حتى مات، فأنا كلما مررتُ به لم أمًلك نفسي.
هذا حالُهم، فأنَّى لنا اللحوق بهم! مَلأْنَا بطونَنا من الحرام، وتراكمت على
قلوبنا سحائبُ الآثام، وغلب علينا سكر المنام، وادعيْنَا الدعاو ى الباطلة
والآمال الكاذبة.
فإن قلت: ما سِرُّ تقديم الخير في هذه الآية على الشر؟
والجواب لما كان المطلوب في العمل تقديمُ الخير على الشر جاء في اللفظِ على
الوَجْهِ المطلوب.
وأيضا لما كان فاعلُ الخير مقدَّماً في الرتبة على فاعلِ الشرِّ جاء
العملُ مرتباً على ترتيب عامله.