فإن قلت: لم أخَّرَه - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الخلْق؟
والجواب لخصائصه وخصائص أمته، منها أن مَنْ تقدم ظهرت فيهم الصناعة
المحتاج إليها، فظهرت الحراثةُ من آدم، والخياطة من إدريس، والنجارة من
نوح، والقيانة من داود، والخرازة من إلياس، وغير ذلك من الصنائع التي احتيج إليها، فجاءت إليهم مهذَّبة، ومنها لئلا يطلع على مساويهم أحدٌ من الأمم.
ومنها لئلا يطول مكثهم في التراب.
ومنها ليكونوا شهداءَ على مَنْ تقدّم، وغير ذلك من الخصائص التي نالوها بسببه - صلى الله عليه وسلم - ويطول ذكرها.
فإن قلت: هل لتسميته في الأحزاب حكمةٌ، لأنها مخالفة لتسمية عيسى؟
فالجواب: أنهم كانوا لا يعرفون في الكتب الماضية إلا هذا الاسم، وسِرّ
تسميته به أنه أشار إليهم فيها بأنه أحمدهم، وهذا الاسم لمْ تغيره ألسنةُ العامة، لأنهم يقولون محمد بفتح أوله أو بضم أوله، ويستعظمون ذِكْره على وجهه
للمواطأة فيه، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للتغيير نسبة، إذ قال: " إنَّ الله صرف عني إيذاءَ قريش وسبَّهم، يسبّون ويذمُّون مذمَّما، وأنا محمد ".
ولما اتصف نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - بكونه أباً للمؤمنين في سورة الأحزاب، لأنهم كانوا لا ينادونه إلا بهذا الاسم تجد المؤمن إذا دهمه أمْرٌ أو حدث له حادث لا يفزع إلا لهذا الاسم الشريف، إذ لا أحسن للإنسان من أبيه عند الفَزع.
وبهذا يندفع ما نحا إليه النووي في الأذكار حيث يزعم أنه لا يذكر اسمه عند العشرة فما فوقها، ولعلَّ السرَّ في هذه الآية هو من ناحية نفْيِ أبوَّة الأشباح، وصحة كونه أباً للأرواح مع كونها مقتضية للرسالة، وختم النبوءة.
وفي شرح البخاري لابن بطال أنَّ الأبوة أشهر من الأمومة، بدليل: (ادْعُوهُم لآبائِهم) ، وللحديث: " ينصب للغادر لواء يوم القيامة ثم يقال: هذا لواء فلان ابن فلان ".
وإنما فرع من قال بالنسبة للأم، لأنه رأى الستر يوم القيامة أدْخَل في باب الإغضاء، وفيما قاله نظر، إذ الأبوة نسبة ظنّية والأخرى يقينية.