فدخلوا على يوسف وهو على سرير في حجاب، فلما رآه بنيامين تذكر
يعقوب وبكى بكاء كثيرا، ثم أمر الحاجب بسؤالهم عن أبيهم، فسألهم، فقالوا له: هو في البكاء والحزن والتضرع، ثم أمر برفع الحجاب، فسلَّموا جميعا عليه، وأعطاه بنيامين كتابَ أبيه، فأخذه وقَبّله، ثم أرْخَى الستر عليه، وقرأ الكتاب، فإذا فيه الوصية على ولده، وما جرى ليوسف من قبله، فبكى وغيض دَمْعُه، ثم أمر بالطعام فأحضر، وأمرهم بالجلوس مَثْنَى مثنى، من كان لأب وأم مائدة واحدة، فبقي بنيامين وَحيداً فبكى، فسألهم مِمّ بكاؤه، فقالوا: كان له أخ لأمه فأكله الذئب، فقال يوسف: اجلس معي يا فتى، ولا تأكل وحيداً، فلما دنا من يوسفِ ورآه غُشي عليه، فلما أفاق قال له يوسف: (أنا أخوك فلا تَبْتَئس بما كانوا يعملون) .
والنكتة فيه أنَّ بنيامين كان وحيداً متحيّراً غريباً، فقال له يوسف: أنا
أخوك، وموسى كان متحيّراً غريبا، فقال الله له: (إني أنا ربك فاخْلَعْ نعْلَيْك) .
كذلك العاصي إذا تحيَّر في بعض المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى: (إني أنا
الغفور الرحيم) - يعني إذا تاب وأقلع.
وقد قدمنا أن الله تعالى وعد بغفران ذنوبه وتبديلها حسنات ومحبّته ودخول
الجنة وفلاحه.
فإن قلت: كيف عرفهم هو ولم يعرفوه، وعرفه بنيامين؟
والجواب أن يوسف كان وفيّاً وإخوته جفاة، فشؤم الجفاء أعمى قلوبهم حتى
لم يعرفوه، لأن الجفاء يمنع المعرفة والصفاء، جفاء يوسف أثَر في قلوبهم حتى لم يعرفوه، فمن جَفَا مولاه سبعين سنة أو أكثر كيف لا يخاف منه أن يسلبه معرفته وقْتَ النزع، قال تعالى: (ونقَلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم
... ) .
وقد صح أن الجفاء يأتي بالغضب، ويذهب بالعفَّة، ويأتي بالمخالفة.
ويذهب بالمراقبة، ويأتي بالمنازعة، ويذهب بالصلح، ويأتي بالفرقة، ويذهب
بالوصلة، ويأتي بالبغْض، ويذهب بالمودة، ويجعل صاحبه أجنبيا، ويذهب
بالصلح.