التعبُ، لكنها توصلك إلى رؤيته التي يزول عنك بها النَّصَب والكَرْب، ولما علم سبحانه أنَّ الدنيا دار مِحَن ومعايش، جعل لهم هذه المعرفة التي يتوصَّلُون بها إلى رؤية ذاته، وعلى قَدْر طول الغربة يكون سرور الأوْبة، ولو رأيناه بغير تعب لما وجدنا لها لذّةً، ألا ترى آدَم لم يعرف قدرها حتى خرج منها، والمسوقُ بالتعب ألذّ من المسوق بلا تعب، فالمعرفة ميدان الخدمة، والرؤية ميدان الراحة، والمعرفة تكون مع بُعْد عن المراد، والرؤية مع قرب النفس إلى المراد، والمعرفة مع الخوف والخطر، والرؤية مع الرضا والكرامة.
والمعرفةُ أول الكرامة، والرؤية تتمتها، والمعرفة في جوار الشيطان، والرؤية في جوار الرحمن، والمعرفة البراءة عن الخلق، والرؤية الوصول إلى الحق.
والمعرفة للواصفين، والرؤية للواصلين.
والمعرفة في الجنس، والرؤية في الأنس.
وأهل المعرفة يشتاقون إلى موضع الواصلين، والواصلون لا يشتاقون إلى موضع العارفين، فكلُّ من رأى فقد عرف، وليس من عرف قد رأى.
فإن قلت: لم خصّت هذه الآية بما تمهَّد فيها من قصد المبالغة والتعظيم من
قوله: (سارِعوا إلى مغفرة) ، دون آية الحديد؟
والجواب لبنائها على الحضّ على الجهاد وعظيم فَضْلِه، وذكر قصة بَدْر واحُد من لدن قوله: (وإذْ غَدَوْتَ من أهلك تبَوِّئُ المؤمنين) .
إلى ما بعد الآية المتكلم فيها، ولما لم يكن في آية الحديد شيء من ذلك
ناسب كلاما ورد فيها. واللَه أعلم.
(عَزَمْتَ) ، أي صححت رأيك فيما مضى من الأمر.
والمخاطب بذلك نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(عَاشِرُوهُنَّ) ، أي صاحبوهن بالمعروف، وأمر الله في هذه
الآية الرجالَ بالصفح عنهن وممازحتهنّ وخدمتهن بما أمكن، وله عليها أعظم
من ذلك، لقول الله العظيم: (ولِلرِّجَالِ عليهنَّ دَرَجةٌ والله عَزِيرٌ حكيم)