سورة البقرة ٢: ١٢٥
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}:
{وَإِذْ}: ظرف زمان، واذكر إذ جعلنا، أو واذكر حين جعلنا.
{جَعَلْنَا الْبَيْتَ}: البيت الحرام؛ أي: الكعبة.
{مَثَابَةً لِلنَّاسِ}: مثابة: اسم مكان؛ مآباً ومرجعاً للحجاج والعمار.
{مَثَابَةً}: من ثاب يثوب مثاباً بمعنى: رجع، وزيدت فيه التاء؛ للمبالغة في كثرة الثيب إليه، يثوبون إليه من كل حدب وصوب، ومن كل فجٍّ عميق، المرة تلو الأخرى. {لِلنَّاسِ}: اللام لام الاختصاص. النّاس: ارجع إلى الآية (٢١) من نفس السورة للبيان.
{وَأَمْنًا}: مأمناً، وملجأً آمناً فيه سكون وطمأنينة؛ كقوله: {حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} العنكبوت: ٦٧.
{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} آل عمران: ٩٧.
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِمَ مُصَلًّى}:
{وَاتَّخِذُوا}: وجعلوا. من: لابتداء الغاية.
{مَقَامِ إِبْرَاهِمَ}: الحجر؛ الذي قام عليه إبراهيم -عليه السلام- ، أيام كان يبني الكعبة؛ حيث احتاج إبراهيم إلى حجر ليرقى عليه ليواصل البناء، فالمقام؛ مكان قيامه، أو وقوفه.
{مُصَلًّى}: مكان للصلاة، تصلون خلفه ركعتي الطواف.
{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}:
{وَعَهِدْنَا}: العهد؛ تكليف وأمر، فقد يكون من طرف واحد.
ولم يُسند العهد في القرآن إلَّا لله وحده، والعهد أقوى من الوصية، والعهد موثق.
{إِلَى إِبْرَاهِمَ وَإِسْمَاعِيلَ}: إلى إبراهيم -عليه السلام- وإسماعيل بن إبراهيم، وإسماعيل؛ اسم أعجمي، لفظ إسماعيل وإسماعين.
{أَنْ}: حرف مصدري، يفيد التّوكيد.
{طَهِّرَا بَيْتِىَ}: من الأوثان، الرجس ومخلفات الذبح، ومخلفات الهدي؛ هذا في القديم، أما الآن؛ فلله دره في نظافته وطهارته.
{طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ}: اللام لام الاختصاص، الطائفين: جمع طائف، مأخوذة من الطواف، وهو الدوران حول الكعبة سبع مرات.
{وَالْعَاكِفِينَ}: جمع عاكف، والاعتكاف (الإقامة) في المسجد، للصلاة والعبادة مدَّة من الزمن، فالعاكفون هم الملازمون للمسجد الحرام، سواء أكانوا من أهل مكة أو من الزائرين.
{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}: جمع راكع؛ أي: المصلون. والسجود يشمل الظاهر الذي نراه والسجود الباطن الخفي الذي يعني الخشوع والخضوع لله تعالى، وأما ركعاً سجداً كما في سورة الفتح آية (٢٩) سجداً تعني: كثرة السجود والمداومة عليه.
ولنقارن كلمة {مَقَامِ}: الّتي وردت في هذه الآية، مع كلمة: مَقَام ومُقَام.
مَقام: بفتح الميم مع التشديد؛ تعني: مكان القيام، أو الوقوف أو العمل، وزمن البقاء فيه قصيراً، مثال {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِمَ مُصَلًّى} البقرة: ١٢٥.
وأما كلمة مُقام: بضم الميم؛ فهو مكان الإقامة والسكن، وزمن البقاء فيه طويل، مثال: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} الفرقان: ٦٦.
مَقام: فتح الميم؛ المنزلة والمكانة، مثال: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} الصافات: ١٦٤.
وفي هذه الآية؛ قال -جل وعلا- : {طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
وفي سورة الحج الآية (٢٦): {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، ذكر القائمين بدلاً من العاكفين؛ لأنه سبق ذكر العاكفين.
في الآية (٢٥) حين قال تعالى: {الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}؛ أي: سواء العاكف: المقيم فيه، من أهل مكة، أو القادم إليه؛ كزائر، ولكونه جاء بذكر العاكفين فلم يكرر، وأبدلها بكلمة القائمين.
{وَالْقَائِمِينَ}: في الصلاة، أو قيل: المقيمون بمكة.
{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}: ذكرهما؛ لأنهما أهم أركان الصلاة، وفيه عطف الخاص؛ أي: الركع السجود على العام (القائمين)؛ لإظهار أهمية الركوع والسجود. وقال الركع السجود، ولم يقل الركع السُّجَّد؛ لأن السجود يعني: السجود الظاهري، والسجود الباطني (الخشوع)، وأما السُّجَّد: فهو يدل على السجود الظاهر فقط، وقوله الركع السجود: تدل على التكثير؛ أي: كثرة الركوع والسجود.