سورة إبراهيم ١٤: ١٨
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِى يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَىْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}:
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِى يَوْمٍ عَاصِفٍ}: أي: مثل أعمالهم الصّالحة كالصّدقة على الفقراء وصلة الرّحم والأيتام وبر الوالدين، أو مساعدة النّاس في الحياة الدّنيا؛ كمثل الرّماد الذي هو ما تبقى بعد احتراق مادة عضوية بالكامل، وضرب هذا المثل؛ لأن صورة الرماد معروفة لدى العرب والريح العاصفة التي تهب عليه الرّيح الشّديدة في يوم عاصف. وضرب المثل: لإزالة أي غموض فليس هناك مثل غامض.
وقال: مثل الّذين كفروا بربهم: أضاف المثل إليهم، وهو في الحقيقة إلى أعمالهم؛ أعمال الّذين كفروا بربهم لم يؤمنوا به ويصدقوا برسله، كمثل الرماد الّتي تركته النّار بعد احتراقها في يوم عاصف اشتدت به الرّيح فجعلته هباء منثوراً.
أي: حبطت أعمالهم الصّالحة، ولم يعد لها ثواباً على الإطلاق، كما لا يقدر أحد على جمع الرّماد في يوم عاصف، وقد وصف الله سبحانه أعمالهم الصّالحة الّتي حبطت بسبب كفرهم وشركهم بعدة تشبيهات في القرآن؛ مثل: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} الفرقان: ٢٣، أو {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} النور: ٣٩، أو {كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ} النور: ٤٠، {صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} البقرة: ٢٦٤.
{لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَىْءٍ}: هذه الآية تخص الكفار، جاءت في سياق الأعمال؛ أي: كلّ الأعمال الحسنة الّتي عملوها في الحياة الدّنيا حبطت لا ثواب لها في الآخرة، ولو كثرت ومهما كانت كلّها حبطت معاً.
لا يقدرون مما كسبوا على شيء؛ أي: الكفار، كما لا يقدرون على جمع الرّماد في اليوم العاصف؛ كذلك أعمالهم الصّالحة الّتي عملوها في الدّنيا لا ثواب لها في الآخرة كلّها تحبط.
{مِمَّا كَسَبُوا}: مما = من + ما؛ من: استغراقية؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي كسبوا، وأوسع شمولاً من الذي، ولم يقل اكتسبوا؛ اكتسبوا: تستعمل في سياق السّيئات؛ أي: الأعمال غير الصّالحة. وكسبوا تأتي في سياق الأعمال الصالحة. ارجع إلى سورة البقرة آية (٢٨٦) لمزيد من البيان.
{عَلَى شَىْءٍ}: مهما كان صغيراً أو كبيراً، ومهما كان نوعه.
{ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}: ذلك: اسم إشارة، واللام: للبعد، وذلك الكفر: هو الضّلال البعيد الّذي لا يؤمل معه الرّجوع إلى طريق الهداية، أو الطّريق المستقيم.
لنقارن بين هذه الآية، والآية (٢٦٤) من سورة البقرة:
ففي آية إبراهيم: {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَىْءٍ}.
وآية البقرة: {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِمَّا كَسَبُوا}.
كلا الآيتين جاءتا في سياق الكفار، ففي آية إبراهيم؛ تعني: كلّ أعمالهم الصّالحة كرماد لا ثوباً لها.
وأمّا في آية البقرة؛ تعني: عمل واحد هو الصّدقات يبطل ثوابها.
وآية إبراهيم: جاءت في سياق الآيات الّتي تتحدث عن أعمالهم؛ أي: سياق العمل، والعامل كاسب؛ فقدم الكسب.
أمّا آية البقرة: جاءت في سياق الإنفاق، والمنفق معطٍ، وليس كاسباً بالمعنى العام، وليس الشّرعي؛ فقدم الشّيء، وأخر الكسب.
وإذا جمعنا الآيتين يكون المعنى: لا ثواب لأعمالهم، ولا لصدقاتهم؛ عطف الخاص على العام: للتوكيد؛ لأنّ أكثر أعمالهم الصّالحة هي الصّدقات، فأكد على بطلانها.