سورة البقرة ٢: ١٧٠
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}:
{وَإِذَا}: ظرفية زمانية للمستقبل.
{قِيلَ}: مبني للمجهول؛ أي: لا يهم من هو القائل، وإنما المهم المقولة هنا.
{لَهُمُ}: أي: للناس، ومنهم كفار العرب، واليهود.
{اتَّبِعُوا}: ما أنزل الله لكم في كتابه من رزق هذا حلال، وهذا حرام، ولا تشركوا به شيئاً.
{قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}: بل حرف إضراب انتقالي، ما اسم موصول، أو مصدرية.
{أَلْفَيْنَا}: بمعنى وجدنا، وهناك اختلاف بين ألفينا ووجدنا في القرآن الحكيم:
أما ألفينا: تستعمل للأمور المشاهدة؛ أي: المحسوسة، أو المادية، وتستعمل في سياق الذّم، والأمور غير المستحبة.
وأما وجدنا: تستعمل لأفعال القلوب وللأفعال غير المحسوسة، والأمور المحسوسة والمشاهدة، فوجدنا: أعم وأشمل، ولا تستعمل للذَّم الشديد.
{عَلَيْهِ آبَاءَنَا}: الآباء: تأتي في سياق التربية والرعاية، والوالدان: تستعمل في سياق الإحسان لهما والمعروف والإنفاق والوصية؛ فهم اختاروا الاستمرار على تقليد آبائهم، والتّقليد هو قبول الحكم بلا دليل من القرآن أو السّنة؛ أي: سنن آبائهم.
{أَوَلَوْ}: الهمزة: للتعجب، والإنكار، الواو: للحال.
{كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـئًا}: لا: النّافية المطلقة، يعقلون شيئاً: نفى عنهم العقل؛ أي: الفهم والإدراك.
{وَلَا يَهْتَدُونَ}: تكرار (لا) تفيد توكيد النّفي، وفصل كل من العقل والهداية على حده، أو كلاهما معاً، ولا يهتدون إلى الحق، أو الفهم الصحيح.
انتبه إلى استعمال: ألفينا هنا جاءت في سياق الذّم، ولذلك جاء معها {لَا يَعْقِلُونَ شَيْـئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.
وقوله: {لَا يَعْقِلُونَ شَيْـئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}: فيها ذم أكبر، أو أكثر من قوله: {لَا يَعْلَمُونَ شَيْـئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}؛ لأنّ نفي العقل أشد من نفي العلم.
مثال على ذلك: في هذه الآية (١٧٠) من سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.
وفي سورة المائدة، آية (١٠٤): {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْـئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.
فآية سورة البقرة جاءت في سياق الّذين اتخذوا الأنداد والأصنام (في سياق الشرك) وعبادتها، فهؤلاء أشركوا بالله، وحرَّموا ما أحلَّ الله، واتَّبعوا خطوات الشّيطان، ولذلك وصفهم بأنّهم: {لَا يَعْقِلُونَ شَيْـئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.
بينما آية المائدة (١٠٤): جاءت في سياق الّذين اتخذوا البحيرة، والوصيلة، والسّائبة، والحام، فهؤلاء شرعوا من الأنعام من دون علم، وقلَّدوا آباءَهم، ولذلك وصفهم بأنّهم: {لَا يَعْلَمُونَ شَيْـئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}، فكلا الفريقين ضلَّ، ولكن ضلال الفريق الأوّل أسوأ من الفريق الثّاني.
ولذلك وصف الفريق الأوّل بـ: {لَا يَعْقِلُونَ} «نفى عنهم العقل».
والفريق الثّاني: {لَا يَعْلَمُونَ} «نفى عنهم العلم».
ونفي العقل أسوأ وأشد من نفي العلم، كما سبق، والاعتماد على العقل، أو العلم وحدهما لا يكفي، فلا بد من هداية الرّب، فكم من عالم مُلحد ضال، وكم من حكيم يدعي الحكمة والعقل، وهو ضال أيضاً.