سورة البقرة ٢: ١٨٩
{يَسْـئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}:
سبب النّزول: قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما- : نزلت هذه الآية في رجلين من الصّحابة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتّى يمتلئ ويستوي ويعظم، ثمّ لا يزال ينقص ويدق حتّى يعود كما كان.
{يَسْـئَلُونَكَ}: بصيغة المبني للمجهول، لا يهم من هم السّائلين هنا، المهم هو السّؤال، وجاء بصيغة المضارع كأنّهم يسألون الآن؛ لأهمية السّؤال. ارجع إلى الآية (٢١٥) من نفس السورة لمزيد من البيان عن معنى كلمة يسألونك.
{عَنِ الْأَهِلَّةِ}: جمع هلال: وهو ما يبدو دقيقاً من حجم القمر في بداية الشّهر القمري، وسمي هلالاً؛ لأنّ الإنسان ساعة يراه يهل؛ أي: يرفع صوته بالتّهليل، بالقول: لا إله إلَّا الله.
الأهلة تعني: تغيرات حجم القمر خلال الشّهر. ارجع إلى سورة ياسين آية (٣٩) لبيان معنى الأهلة.
{قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}: قل لهم يا محمّد -صلى الله عليه وسلم-: {هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}: جمع ميقات، مشتقة من الوقت؛ أي: الزّمن، فبالأهلة يعرف النّاس بدء الشّهر، ومنتصفه، وآخره، ورمضان، وموسم الحج، والأشهر الحرم، والهلال ميقات الشّهر، والميقات ظرف زمان، أو ظرف مكان.
{لِلنَّاسِ}: اللام: لام الاختصاص، النّاس: ارجع إلى الآية (٢١) لمزيد من البيان.
وبالنسبة للحج الميقات الزماني هو: الزمن الّذي يُحرم فيه الحاج للحج والعمرة «الحج أشهر معلومات تبدأ من أوّل يوم عيد الفطر، والجمهور حددها بشهرين وعشرة أيام»، والميقات المكاني: الموقع، أو الأرض الّتي يحرم فيها الحاج للحج والعمرة، وقد حددها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس مواقيت، وهي مواضع الإحرام، كما في حديث الصحيحين، عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- : أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل المدينة ذا الحُليفة، ولأهل الشام الجُحْفة، ولأهل نجد قَرْن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، ولمن كان مقيماً بمكة ميقاته الحرم في الحج، أو الجعرانة، أو التنعيم في العمرة.
{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}: السّؤال هنا ما وجه الصّلة في هذا الشّطر من الآية وما قبلها، هم يسألون عن الأهلة، وأجابهم إلى ذلك فقال هي مواقيت للناس والحج، انتهى السّؤال والجواب، قيل: هذا من باب الاستطراد في القرآن، أراد الله سبحانه أن يسألهم بالمقابل أو بالمناسبة لما تدخلون البيوت من ظهورها أيام الإحرام للحج.
وقال المفسرون: كان النّاس في الجاهلية، وفي أوّل الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل بستاناً، ولا بيتاً، ولا داراً من بابه، فإن كان من أهل مكة نقب نقباً في ظهر بيته، منه يدخل ومنه يخرج، أو يتخذ سلماً فيصعد فيه، وإن كان من أهل الخيام خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يدخل من الباب، حتّى يحل من إحرامه، ويرون ذلك ذمّاً، إلَّا أن يكون من الحُمْس: وهم قريش، وكنانة، وخزاعة، وثقيف، وخثعم، وبنو عامر بن صعصعة، وبنو النّضير بن معاوية، سمّوا حمساً لشدتهم في دينهم.
قالوا: فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار، فدخل رجل من الأنصار على إثره من الباب وهو محرم، فأنكروا عليه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لِمَ دخلت من الباب وأنت محرم؟»، فقال: رأيتك دخلت من الباب، فدخلت على إثرك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إني أحمسيّ»، قال الرّجل: إن كنت أحمسيّاً فإنّي أحمسيّ، ديننا واحد، رضيت بهديك وسمتك ودينك، فأنزل الله هذه الآية، رواه ابن أبي حاتم، والحاكم عن جابر.
الحُمْس: جمع أحمس من الحماسة، وهي الشّدة، والصّلابة؛ لتشدُّدهم في الدّين، فهم كانوا يظنون أنّ دخول البيوت من ظهورها هو من التّقوى والطاعة والبر، وهو في الحقيقة من أعمال الجاهلية، فنزلت هذه الآية لتدلَّهم على البر الحقيقي.
فقال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}: ولكن {الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}: أي: أطاع أوامر الله، واجتنب نواهيه، وعاد وأكَّد عليهم بدخول البيوت من أبوابها، قال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: أي: أطيعوا الله بما أمر به ونهى عنه، {لَعَلَّكُمْ}: للتعليل، {تُفْلِحُونَ}: أي: لتفلحوا في دنياكم وآخرتكم، {تُفْلِحُونَ}: ارجع إلى الآية (٥) من سورة البقرة.
ومما يلفت النّظر قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ}: جاءت كلمة البرُ مرفوعة وجاءت مرفوعة؛ لأنّها جاءت اسم ليس، أما في قوله: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}: فالبرُّ هنا خبر (ليس) المقدَّم المنصوب، وتفسير آخر ليس البرُّ: جاءت بالرّفع؛ لأنّهم يظنون أنّهم يعرفون ما هو البر، وهم لا يعرفونه، أو للفت الانتباه إلى أن ما يعملونه من دخول البيوت من ظهورها هو خطأ، واللهُ أعلم.