سورة الأحزاب ٣٣: ٤
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّائِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ}:
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ}: ما النّافية، جعل: خلق الله، لرجل: اللام لام الاختصاص والتّعليل، من قلبين في جوفه: من استغراقية ولبيان الجنس، والجعل يكون بعد الخلق أيْ: لم يجعل الله لأحد قلبين في صدره، وهذه حقيقة علمية، وهناك الكثير من التشوهات الخلقية تحدث في القلب، ولكن لم يُعثر على أحد خُلق وله قلبان.
وذكر بعض المفسرين أن هذه نزلت في بعض الأفراد من بني فهر أو بني جمح من قريش يُضرب بهم المثل في الحفظ والذاكرة أو الدهاء.
وقيل: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه هو مثل ضربه الله للذي يُظاهر امرأته والمتبني ولد غيره، أيْ: كما لم يجعل الله لرجل قلبين في جوفه لم يجعل زوجة لرجل أماً له، ولم يجعل أيَّ ابن بالتبني ابناً حقيقياً للأب المتبني، ولذلك قال تعالى: ادعوهم لآبائهم فقط.
{وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّائِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}: فقد كان شائعاً عند العرب وقريش زمن الجاهلية عادة اجتماعية تسمَّى الظّهار، فحين يحدث بين الرّجل وزوجته نشوز أو كره كان يقول لها: أنت كظهر أمّي، أيْ: أنت عليّ محرمة كحرمة أمّي فتصبح عليه محرمة إلى الأبد (تشبه الطّلاق)، فلما جاء الإسلام جعل لها كفارة ولم يعتبرها طلاقاً؛ لأنّ الزّوجة ليست أمّاً له كما ادَّعى، وحدَّد هذه الكفارة إمّا بعتق رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} المجادلة: ٣-٤.
واستعمل كلمة اللائي هنا بدلاً من اللاتي؛ لأنّ اللائي بالهمزة أثقل من التّاء في اللاتي، واللائي يستعملها فقط في آيات الطّلاق، والظّهار فهو يستعمل أثقل الحروف مع أثقل الحالات وهي الطّلاق والظّهار، وكلمة اللائي مشتقة من اللأْي، أيْ: الاحتباس والشّدة، وهذا ما يناسب حالتي الطّلاق والظّهار اللتين في معناهما حبس النفس والشّدة.
{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}: وظاهرة أخرى كانت شائعة في الجاهلية وفي مطلع الإسلام هي التّبني، وأجمع أهل التّفسير على أنّ هذه الآية نزلت في زيد بن حارثة، وروى الأئمّة أنّ ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمّد حتّى نزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} رواه البخاري، ورواه الواحدي في أسباب النّزول.
الدّعي: هو الّذي تدعي أنّه ابن لك بالتّبني، فأراد الله سبحانه أن يبطل ذلك فأنزل هذه الآية، ودعا الله سبحانه رسوله -صلى الله عليه وسلم- والصّحابة وعامة المسلمين أن لا يدعوا أدعياءَهم أبناءَهم، وأن يدعوهم لآبائهم، وأظهر الله سبحانه أن:
{ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ}: ذلكم اسم إشارة واللام للبعد والكاف للخطاب، ذلكم تشير إلى الادِّعاءات الثّلاثة: أن رجلاً له قلبان في جوفه، وأزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمّهاتكم، وأدعياءَكم أبناءَكم هي مجرَّد أقوال باطلة لا حقيقة لها، وما يقوله الله سبحانه هو الحق بعينه، أيْ: حق اليقين.
ذلكم: ولم يقل ذلك؛ لأنّها تشمل عدة أمور، وليس أمراً واحداً ولأنّها أمور بالغة الأهمية.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ}: أي: الصدق والحق هو الأمر أو القول الثابت الّذي لا يتغيَّر أو لا يكون غيره.
{وَهُوَ}: هو ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{يَهْدِى السَّبِيلَ}: أي: ادعوهم لآبائهم ولا تدعوا أزواجكم أمّهاتكم ذلك هو السّبيل: الإسلام الصّحيح.