سورة سبأ ٣٤: ١٤
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ}:
{فَلَمَّا}: الفاء: عاطفة، لما: ظرفية زمانية بمعنى حين متضمنة معنى الشّرط.
{قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ}: قضينا من القضاء وهو ما كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يقع، وقيل: حكمنا، وأمّا القدر فهو: ما وقع تصديقاً لذلك القضاء؛ أي: حكمنا على سليمان بالموت، فالموت قضاء كقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} الزّمر: ٣٠، فالموت لا مفر منه وسواء كان الموت بسبب أو بغير سبب أو موتاً عادياً بسبب الكبر أو الموت بمرض أو بكارثة أو كرب كلّه قضاء.
قضينا عليه الموت: على سليمان بأن تقبض روحه وهو قائم يصلي في المحراب ومتوكئٌ على منسأته (عصاه) ولم تعلم الجن بموته، وبقي الجن يعملون أعمالهم الّتي بدؤوها وكذلك الإنس لم يعلموا بموته، ولو علم الجن (الشّياطين) الغيب؛ أي: علموا بموت سليمان، ما لبثوا في العمل والتّعب طوال تلك المدة حتّى أكلت دابة الأرض منسأته فخرّ، وعندها تبيّنت الجن موته وتبيّن للجن أنّهم لا يعلمون الغيب، وتبيّن للإنس أيضاً أنّ الجن لا يعلمون الغيب كما كانوا يظنون خطأ. وموته بهذا الشكل كشف كثير من الحقائق للناس والجن عما افتروه على سليمان كما سنرى.
{مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ}: ما: النّافية، دلّهم على موته: الضّمير يعود على الجنّ؛ أي: ما دلّ الجن على موت سليمان.
{إِلَّا}: أداة حصر.
{دَابَّةُ الْأَرْضِ}: قيل: هي الحشرة الّتي تأكل الخشب وتسمى: الأرضة أو العتة.
{تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ}: أي تقرض منسأته؛ أي: تأكلها شيئاً فشيئاً، والمنسأة: هي العصا، وأمّا لماذا سميت مِنسأة: مشتقة من: نسأ؛ أي: أخّر وسميت منسأته وليس عصاه؛ لأنّها كانت سبباً لتأخير معرفة الجن بزمن موت سليمان، فقد كان سليمان -عليه السلام- يعبد الله قائماً؛ أي: واقفاً حتّى يتعب فيراوح بين قدميه ويستعين بالعصا متكئاً عليها، وسميت العصا: منسأته؛ لأنّه يؤخّر بها الغنم أو الإبل؛ أي: تزجر بها أو تساق كي تغير طريقها أو مرعاها فهي آلة الزّجر. (تأخير) وسوق، ومنسأة سليمان كانت تسوق الجن للعمل لسليمان -عليه السلام- ، وكذلك أخرت الجن من العلم بموت سليمان، ولذلك لبثوا في العذاب المهين مع أن سليمان كان ميتاً.
{فَلَمَّا خَرَّ}: الفاء: للتعقيب والمباشرة: خرّ: سقط على الأرض بشكل غير عادي أو بلا ترتيب مثل الهبوط على ركبتيه والاستعانة بيديه، سقط بلا نظام.
{تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ}: انكشف وظهر كذب الجن أنّهم يعلمون الغيب، وكذلك تبيّنت الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب.
{أَنْ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ}: أن للتوكيد، لو: شرطية، يعلمون الغيب: كما زعموا باطلاً، لعلموا بزمن موته مباشرة.
{مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ}: ما بقوا يعملون الأعمال الشّاقة الّتي فرضت عليهم من سليمان من قبل موته، وهم يظنونه حياً وكانوا يظنون أنّهم خير من الإنس، وكيف سخّروا لخدمة سليمان وهو أدنى منهم! فقد خلقوا من نار والإنس خلقت من طين، وأنّهم يعلمون الغيب والإنس لا يعلمون.
وقيل: أرادوا أن يعرفوا زمن موته فجاؤوا بعصا مشابهة. والأرضة (دابة الأرض) فقدّروا ما أكلت في زمن معيّن، فوجدوا أنّه قد مات منذ سنة ورغم هذا الملك العظيم مات سليمان -عليه السلام- وكان عمره (٥٣) سنة، وقيل: كان ملكاً وهو ابن (١٣) عاماً وبقي في ملكه (٤٠) عاماً وبدأ إعادة بناء المسجد الأقصى وهو ابن (٤٠) عاماً.
ولماذا حدث هذا الأمر العجيب: أن تقبض روح سليمان وهو قائم يصلي متكئاً على منسأته ولم يخرّ على الأرض بعد موته حتّى تأكل دابة الأرض منسأته؟ قيل: كان النّاس يظنون أنّ الجن تعلم الغيب فأراد الله سبحانه أن يثبت للناس أنّ الجن ولا غيرهم من الإنس يعلمون الغيب وما يزعمونه من علم الغيب هو أمر باطل، فلو كانوا يعلمون الغيب؛ أي: موت سليمان، ما لبثوا في العذاب المهين.
وقيل: إنّ سليمان -عليه السلام- دعا ربه أن يعمّي على الجن موته فاستجاب له ربه؛ حتّى ينكشف ويعلم النّاس أنّ الجن لا يعلمون الغيب ويظهر كذب الجن وما افتروا على سليمان ما جاء به السحر، ارجع إلى الآية (١٠٢) من سورة البقرة لمزيد من البيان. وقيل: لأنّه بقي على عمارة بيت المقدس بقية؛ ولكي يتمّوا عمارة المسجد الأقصى، والله أعلم.