سورة يس ٣٦: ٦٥
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}:
{الْيَوْمَ}: يوم القيامة.
{نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ}: نختم: بصيغة الجمع: للتعظيم؛ أي: يختم الله سبحانه على أفواههم في يوم القيامة، كما ختم على قلوبهم في الدّنيا فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر؛ أي: يمنعهم من الكلام حتّى لا يعتذروا ولا يَستعتبوا، فالمقام مقام حساب فلا جدوى من الاستغفار والاعتذار فقد انتهى زمن التكليف وزمن الكلام وحان زمن الختم على الأفواه، فلم يعد للسان دور، وتقيّد الألسن لتنطق الجوارح.
{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ}: تكلمنا أيديهم تطوعاً لا أمراً ولا إكراهاً.
{وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم}: تتطوع الجوارح بالشّهادة مثل الأرجل والسّمع والأبصار والجلود والأيدي ومع أنّها هي الجوارح نفسها الّتي فعلت المعاصي والذّنوب في الدّنيا فهي لا تشهد على ذاتها؛ أي الأيدي لا تشهد على الأيدي نفسها أو الأرجل على الأرجل إنما تشهد على النّفس الّتي أخضعت الجوارح وأمرتها أن تسير حسب هواها وشهواتها، فالجوارح والأعضاء في الآخرة تتحرر من تبعيتها للنفس وتصبح تابعة لله سبحانه وحينذاك الأيدي تتكلم وتشهد الأرجل، ولكن لماذا نسب الكلام إلى الأيدي والشّهادة للأرجل؟ لأنّ معظم الأعمال تقوم بها الأيدي وما دامت أنّ الأيدي أصبحت المدّعية في محكمة الحق سبحانه فالأيدي تحتاج إلى شاهد فتتطوع الأرجل فتشهد؛ فقد روى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يقول العبد يوم القيامة: لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه، ويقال لأركانه انطفي، فتنطق بعمله، ثم يُخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل». واختار في هذه الآية الأيدي والأرجل، وفي سورة النور آية (٢٤) قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أضاف الألسنة، وفي سورة فصلت آية (٢٠) قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أضاف السمع والأبصار والجلود، وإذا جمعنا الشهود نجدهم أصبحوا (٦) شهداء، وإذا أضفنا إلى هؤلاء الستة الملائكة الكتبة عن اليمين وعن الشمال والأرض التي يمشي عليها والسماء التي يمشي تحتها يصبح عدد الشهداء (١٠) شهداء، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} البقرة: ٤٣ سبحان الله ألا يكفي ذلك؟!
أمّا كيف تنطق الأيدي؟! فلو نظرت إلى اللسان والأيدي الكل يتركب من عضلات ودم وأعصاب فمن أنطق اللسان يمكن أن ينطق الأيدي، والأمر ليس صعباً على الله تعالى.
{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: الباء للإلصاق، وما بمعنى الّذي أو مصدرية: بما كسبتم، والكسب: هو الفعل العائد على فاعله بنفع أو ضر، و الكسب يحتاج إلى تدريب وتكرار، والكسب تقوم به الجوارح والجوارح تسمى كواسب وحين يعمل الإنسان المعصية أو السّيئة ويفرح بها ويتحدث بها يعتبرها كسباً، ولم يقل بما كانوا يعملون؛ لأنّ الكسب يحتاج إلى العلم بما يكسب أو يعمل، والعمل: لا يحتاج إلى العلم بما يعمل.