سورة البقرة ٢: ٣٠
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}:
{وَإِذْ}: الواو استئنافية.
إذ: ظرف للزمن الماضي، تعني: واذكر؛ فالمعنى: واذكر حين قال ربك للملائكة.
{قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً}: أبلغهم ذلك، قبل خلق آدم وذريته.
{لِلْمَلَائِكَةِ}: كل الملائكة، أم قسم من الملائكة، المرجح؛ والله أعلم: أنهم قسم من الملائكة، وهم الموكلون ببني آدم.
{جَاعِلٌ}: بالتنوين، الذي يدل على الحال، والاستقبال، أما (جَاعِلُ) بالضم: فيدل على الماضي؛ أي: ما جعله حدث في الماضي.
{فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً}: في: ظرفية مكانية أو زمانية.
خليفة: أي يخلف غيره ويقوم مقامه، يخلفه زماناً أو يخلفه مكاناً، وقيل: خليفته أصلها خليف، ودخلت الهاء للمبالغة؛ أي: يخلف بعضه بعضاً لكي يعمروا الأرض ويقوموا بما وكل إليهم؛ لأن كل خليقة (كل إنسان) سيموت ويخلفه غيره، وهذه الخلافة قد تكون محدودة أو مقيدة أو مطلقة، وهي خلافة متفاوتة مختلفة بالتفاضل وهذا أيضاً ابتلاء من الله تعالى، وفي نفس الوقت هي خلافة تكامل كلٌّ يكمل الآخر؛ ارجع إلى سورة الأنعام آية (١٦٥) لمزيد من البيان.
وقول الله سبحانه للملائكة: {إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً}: فقط للإعلام، وليس قول استشارة، يستشير فيها الملائكة.
{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}:
{أَتَجْعَلُ}: الهمزة، همزة استفهام، وتعجب، وليست همزة استفهام إنكاري، أو اعتراضاً على حكم الله سبحانه، وليس استفهاماً عن الجعل نفسه، أو الاستخلاف، وإياك أن تظن أنّ الملائكة، يعترضون على أمر الله، وقد يكون سؤالهم لمعرفة الحكمة، من وراء خلق هذا الخليفة، وما شأنه، ووظيفته.
{فِيهَا}: في الأرض، {مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}: من ابتدائية.
{يُفْسِدُ فِيهَا}: من الفساد، وتعريف الفساد: ارجع إلى الآية (١١) من سورة البقرة.
{وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}: السفك؛ هو الصب، والإهراق، الدماء، وسفك الدماء؛ من الإفساد في الأرض، والقتل الجماعي، والمجازر.
{وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}: بدلاً من يقتل، للدلالة على بشاعة الفعل.
قد يسأل سائل: كيف علمت الملائكة، بأنه سيفسد في الأرض، ويسفك الدماء، وآدم لم يخلق بعد، ولا ذريته؟
للعلماء أكثر من قول، في الرد على هذا السّؤال:
١ - كونهم اطّلعوا على ما كتب في اللوح المحفوظ، من أفعال الخلق (البشر)، ولا يعني أنهم يعلمون الغيب.
٢ - رأوا ما يفعله الجن في الأرض، من فساد، وتخريب، فظنوا أنّ الإنس ستفعل مثل ما فعله الجن؛ أي: قاسوا أحد الثقلين على الآخر.
٣ - عرفوه بإخبار الله -جل وعلا- لهم.
٤ - ظنوا أنهم وحدهم، هم الخلق المعصومون، وكل خلق سواهم ليسوا معصومين.
{نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}:
{نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}: التسبيح؛ هو تنزيه الله، عما لا يليق به، التنزيه الكامل؛ ذاتاً، وصفاتٍ، وأفعالاً، تنزيه من الند، والشبيه، والولد، والصاحب، والشريك، والعجز، والنقص، ومن الأغيار، تسبيحاً، مصاحباً، للحمد؛ أي: نسبحك، ونحمدك، على نعمك علينا.
{وَنُقَدِّسُ لَكَ}: من التقديس، وهو التطهير، مأخوذ من القدس، وهو الدلو، المستعمل لإخراج الماء، الذي كانوا يتطهرون به، وتعني نعظمك ونكبرك.
والقدوس: أي: الطاهر، من كل الأحداث والأغيار.
{لَكَ}: أي: وحدك، ولا نقدس غيرك، وهناك فرق بين التسبيح والتقديس، فالتقديس أعم من التسبيح.
{قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}: رداً على الملائكة، {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، أعلم أنّ سيكون من ذلك الخليفة أنبياء، ورسل، وصدّيقين، وشهداء، وصالحين، ومن سيسبح، ويقدس، ويحمد بإرادتهم، ومشيئتهم، وأني أعلم غيب السموات والأرض، وأعلم ما لا تعلمون.
{إِنِّى}: للتوكيد، أعلم ما لا تعلمون من الغيب، وما يُصلح الأرض، وما يفسدها، ثم خلق الله سبحانه آدم، بعد ذلك وعلمه الأسماء.