سورة المائدة ٥: ٩٣
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَّأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}:
سبب النزول: بعد نزول الآية السابقة؛ بتحريم الخمر والميسر، سأل أناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن مصير إخوانهم الذين أسلموا، وكانوا يشربون الخمر، ويتعاطون الميسر، وماتوا، أو قتلوا في سبيل الله قبل نزول هذه الآية؛ فجاء الرد الإلهي على سؤالهم.
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ}: أيْ: إثم، أو ذنب، أو جرم.
{فِيمَا طَعِمُوا}: طعموا هنا: تشمل الطعام، والشراب (أي: الخمر).
واستعمل {لَيْسَ}: للنفي بدلاً من (لا)؛ فقال: ليس عليهم جناح، بدلاً من: لا جناح عليهم؛ لأن لا جناح عليهم: لا: نافية للجنس أقوى توكيداً في النفي من ليس؛ لأن (لا جناح عليهم) جملة اسمية، بينما ليس عليهم جناح جملة فعلية، والجملة الاسمية أقوى من الفعلية، ولذلك نجد القرآن يستعمل (لا جناح عليهم) في العبادات، والأمور الأسرية، والحقوق الزوجية؛ أي: الأمور الأكثر أهمية، ويستعمل (ليس عليهم جناح) في أمور الطعام، والشراب، ودخول البيوت، واللباس؛ أي: الأمور الأقل أهمية من السابقة.
ثم صنَّف {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: وشربوا الخمر، وتعاطوا الميسر، وماتوا أو قتلوا قبل نزول هذه الآية: ليس عليهم جناح (إثم) على شرط أنهم {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: أيْ: ماتوا، أو قتلوا؛ وهم في حالة التقوى، والإيمان، والأعمال الصالحة.
الصنف الثاني: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: وشربوا الخمر، أو تعاطوا الميسر، ولا زالوا أحياء؛ ليس عليهم إثم أو حرج قبل نزول هذه الآية على شرط أن يتجنبوا شربها بعد نزول الآية، وأن لا يتعاطوا الميسر، ويستمروا على إيمانهم وتقواهم.
الصنف الثالث: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: ولم يشربوا الخمر، أو يتعاطوا الميسر قبل نزول هذه الآية، أو بعد نزولها؛ أيْ: هؤلاء الذين {اتَّقَوْا وَّأَحْسَنُوا}: أيْ: استمروا في تقواهم، وإحسانهم؛ فهؤلاء لهم أعظم الدرجات.
وانتبه! إلى مجيء {ثُمَّ}، وتكرارها مرتين: لا تفيد الترتيب والتراخي في الزمن، وإنما تفيد في تباين الدرجات بين هؤلاء الأصناف، فالصنف الثالث: أعظم درجة، وأفضل من الصنف الثاني، والصنف الثاني: أعظم درجة، وأفضل من الصنف الأول.
لننظر مرة أخرى إلى الآية: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَّأَحْسَنُوا}:
هنا ثلاث تقوات، وآمنوا مرتين، وعملوا الصالحات مرة، وأحسنوا مرة، فما تفسير كل ذلك؟
{إِذَا مَا اتَّقَوْا}: إذا: شرطية، ما: للتوكيد زائدة، اتقوا: شرب الخمر، والمعاصي، والشرك، اتقوا: أيْ: أطاعوا أوامر الله سبحانه، وتجنبوا نواهيه.
{وَآمَنُوا}: بالله، ورسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: أقاموا الفرائض، والنوافل، وذكر الله.
{ثُمَّ اتَّقَوْا}: اتقوا شرب الخمر، بعد تحريمها، وآمنوا بالله، ورسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر.
ثم اتقوا: استقاموا على تقواهم بامتثال أوامر الله، وتجنب نواهيه بما فيها شرب الخمر، والميسر.
{وَّأَحْسَنُوا}: وأحسنوا العمل الصالح، (كمّاً وكيفاً)، وأحسنوا الإيمان بعد ترك شرب الخمر، والتقوى.
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: ارجع إلى الآية (١١٢) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
{الْمُحْسِنِينَ}: جمع محسن، وهو من أحسن في إيمانه، وتقواه، وعبادته، كمَّاً وكيفاً؛ فهؤلاء مع الذين يحبهم الله تعالى.
فالتقوى الأولى: في الآية تعني: امتثال ما أمر الله به، ونهى عنه.
والتقوى الثانية: تعني: عدم شرب الخمر، والميسر، والأزلام.
التقوى الثالثة: الاستقامة على طاعة الله، وامتثال أوامر الله.