سورة الأنعام ٦: ٩٥
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}:
المناسبة: بعد أن ذكر الله -جل وعلا- : أن عنده مفاتح الغيب، وأنه العليم، بما يجري في كونه، وهو الذي يتوفاكم، وهو القاهر، والمنجي، والقادر، وأنه الواحد الأحد، كما ورد في قصة إبراهيم -عليه السلام- ، وما سيحدث حين الموت والبعث، يذكر بعض الآيات، والأدلة على قدرته في الخلق والإيجاد، ويبدأ بمثال فلق الحب والنوى، ثم ينتقل إلى مثال آخر، هو فالق الإصباح فيقول:
{إِنَّ}: حرف مشبَّه بالفعل، يفيد التوكيد.
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}: فالق: أي: شاقّ الحب والنوى، ويعني ذلك: خالق الحب والنوى، فينبت به الزرع على اختلاف أصنافه، من الحبوب والثمار على اختلاف أشكالها.
{الْحَبِّ}: مثل القمح، والشعير، والأرز الذي ليس له نوى.
{وَالنَّوَى}: له نواة؛ مثل: البلح، والخوخ، وقسم نجد له نواة، وداخل النواة شيء آخر، مثل: بذرة البطيخ.
{فَالِقُ}: صفة لذات الله ثابتة؛ أي: قبل أن يوجد الحب والنوى؛ الذي يفلقه كان فالقاً، وبعد أن وجد الحب والنوى؛ كذلك يفلقه.
وكذلك مخرج: صفة لذات الله، مثل: الرزق؛ أي: رزاق، قبل أن يوجد أيُّ مخلوق يرزقه، وبعد أن خلقه يرزقه.
إذنْ: مثل هذه الأسماء والصفات؛ تدل على الثبوت.
{يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ}: قبل تفسير هذا الجزء من الآية؛ يجب أن نعلم: أن كل شيء خلقه الله فيه حياة؛ حتى الجمادات، مثل: الحجارة، والحديد، والمعادن؛ كلٌّ له حياته الخاصة به حتى تقوم الساعة، وكل شيء يسبح بحمد؛ لقوله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الإسراء: ٤٤، {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، وما دام كل شيء هالك؛ فكلُّ شيء فيه حياة، فلا يعني أن الشيء إذا لم يتحرك أمامنا، ويحس ليس فيه حياة، كما كان يعتقد القدامى؛ فالله يخاطب الأكثرية من الناس بمقدار علمهم على كون الشيء حياً أو ميتاً، وليس علمه بالأشياء، أو علم القلة من العلماء.
فالله سبحانه حين يقول: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ}، الميت الذي لا حسَّ فيه، ولا حركة، فهو يخاطبنا، كما نفهم الأشياء، بشكل ظاهري.
وبمفهوم الإعجاز العلمي اليوم: لا يوجد شيء ميت، وإن كان لا حسَّ له ولا حركة، مشاهدة بالعين، وبمفهوم الإعجاز العلمي اليوم: نستطيع أن نفسر {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ}: أي: يخرج الحي من الحي، ويخرج الميت (الحي) من الحي، فكل شيء فيه حياة. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (٢٧)؛ لمزيد من البيان.
مثال: نجد في كثير من كتب التفسير؛ تفسير هذه الآية بأنه يخرج الحي (الدجاجة) من الميت (البيضة)، البيضة في نظر الكثير تعتبر شيئاً ميتاً، وهذا غير صحيح بمفهوم العلم الحديث.
وإذا نظرنا إلى هذه الآية: {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ}: نجد كلمة يخرج ومخرج؛ فكلمة {يُخْرِجُ}: فعل مضارع، والفعل يدل على التجدد، والتكرار، والاستمرار.
وكلمة {وَمُخْرِجُ}: اسم (صفة): تدل على الثبوت، صفة ثابتة لذات الله -عز وجل- ، فبذلك جمع صفات الكمال التي تشمل التجدد والثبات معاً.
انتبه إلى قوله -جل وعلا- : {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ}: جاء بالفعل {يُخْرِجُ}: ثم قال -سبحانه وتعالى- : {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ}: فجاء بالاسم (مخرج).
جاء بالفعل {يُخْرِجُ}: مع الحي؛ لأن من أبرز صفات الحي: الحركة والتجدد، وجاء بالاسم {وَمُخْرِجُ}: مع الميت؛ لأن أبرز صفات الميت السكون، وعدم الحركة؛ لأن من صفات الاسم: الثبوت؛ فهو يماشي السكون وحده (الموت).
{فَأَنَّى}: أنّى: استفهام إنكاري، وفيها معنى الذم التعجب؛ أيْ: لا مبرر لكم؛ لعدم إيمانكم، وعباداتكم إياه وحده، و (أنى): تعني كيف، ومن أين لكم؟
{تُؤْفَكُونَ}: من أفكه عن الشيء: صرفه عنه وقلبه, باستخدام الكذب كوسيلة.
فكيف تصرفون عن الإيمان به، وعبادته إلى عبادة غيره -جل وعلا- ، أو تصرفون عن خالقكم، إلى غيره، فكيف حدث ذلك، أو من أين لكم هذا؟