وَهَذَا فِيْه أَزْهَدُ مِنْهُ فيهِ (١)
وقيل لسفيان بن عيينة: يقول الناس: كل إنسان عدو ما جهل، فقال: هذا في كتاب الله، قيل أين؟ فقال: (بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه) (٢)، والإحاطة بعلم الشيء هي المعرفة به من جميع وجوهه. (٣)
ومعنى الآية: ما بهؤلاء المشركين يا محمد تكذيبك، ولكن بهم التكذيب مما أنزل الله عليك في هذا القرآن من وعيدهم على كفرهم بربهم (٤) فهم كذبوا بالقرآن وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره.
قال الزمخشري: " بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجؤوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم" (٥). والحق أن يحيطوا بعلمه لأنَّ توفر أدلة صرفه، تحتاج إلى زيادة تأمل وتدقيق نظر بحيث يتعين على الناظر عِلمُ أدلته ثم إعادةُ التأمل فيها، وتسليط علم على علم ونظر على نظر بحيث تحصل الإحاطة بالعلم.
وفي هذا مبالغة في فرط احتياجه إلى صدق التأمل، ومبالغة في تجهيل الذين بادروا إلى التكذيب من دون تأمل في شيء حقيقي بالتأمل بعد التأمل .... وإنما يكون مثل هذا التكذيب عن مكابرة وعداوة لا عن اعتقاد كونه مكذوباً (٦).
وكذلك قوله تعالى {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}، أي وإذا لم يهتدوا بالقرآن (٧) فسيقولون هذا القرآن الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- أكاذيب من أخبار الأولين قديمة، كما قال- جلَّ ثناؤه -مخبراً عنهم {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (٨) الفرقان: ٥ فالكفار لمَّا لم يهتدوا بهذا القرآن، وفاتهم أعظم المواهب، وأجل الرغائب، قدحوا فيه بأنه كذب، وهو الحق الذي لاشك فيه، ولا امتراء يعتريه، الذي قد وافق الكتب السماوية خصوصاً أكملها وأفضلها بعد القرآن وهي التوراة التي أنزلها الله على موسى -عليه السلام-. (٩)
(١) مناقب الشافعي للبيهقي ٢/ ١٥١
(٢) زاد المسير ٤/ ٣٣
(٣) تفسير الطبري ١/ ٤٤٤.
(٤) تفسير السمعاني ٢/ ٣٨٤.
(٥) تفسير الطبري ١١/ ١٣٧.
(٥) الكشاف ٢/ ٣٤٧، وينظر: تفسير النسفي ٢/ ١٢٩.
(٦) ينظر: التحرير والتنوير ١١/ ٨٥.
(٧) ينظر: تفسير البغوي ٤/ ١٣٦ وتفسير القرطبي ١٦/ ١٦٤ والبحر المحيط ٨/ ٥٩، و تفسير ابن كثير ٤/ ١٥٦ والتحرير والتنوير ٢٦/ ٢٠
(٨) تفسير الطبري ٢٦/ ١٨
(٩) ينظر: تفسير السعدي ص: ٧٨٠.