أمَّا من جعلها بمعنى القسم أو غيره، فإنَّه إمَّا أن يكون أخذه من طريق اللُّغة، وإما أن يكون من مصدر آخر، فإن كان من طريق اللُّغة، فإنه إما أن يكون وارداً في المنقول من اللُّغة عن اللُّغويين، وأما أن يكون غير منقول، فإن لم يكن منقولاً ففيه إشكالٌ من جهة قبوله لغرابته.
وإن كان مصدر التفسير غير اللغة، فإنه يُنظر في المصدر، وهذا ممَّا يَعسُر الاطِّلاع عليه عند من قال بالقسم وغيره.
وهناك قوم زعموا أنَّ لها معنىً خَفِيَّاً علينا، وهو مما استأثر الله بعلمه، وهذا مخالف للاعتقاد، فإنَّ الله لم ينزل في كتابه ما لا يُفهم معناه، وإلا كان بمثابة الكلام الأعجميِّ الذي لا يفهمه العربيُّ، ولو كان لها معنى استأثر الله به لسأل عنه الكفارُ أو
الصحابة، ولماَّ لم يسألوا ظهر أنَّهم فهموا أنَّ هذه أحرفٌ لا معنى لها كبقية الأحرف عندهم. ولا يقال: إنَّ في القرآن ما لا يُفهم.
فإنَّ الجواب: إنَّ مالا يدرك لا يرتبط بالمعنى، بل يرتبط بما هو خارج المعنى كوقت حدوث الحوادث (متى الساعة؟) وككيفية بعض المغيبات التي استأثر الله بعلمها، ولم يبين شيئاً من وصفها إلا الاسم (كالدَّابَّة التي تخرج آخر الزمان) فهذان القسمان خارجان عن المعنى، فالسَّاعة والدابة من جهة اللغة معروفتان، ولكن وقتهما وصفتهما لا يُعرفان من جهة المعنى بل من جهة الإخبار عنهما من الله سبحانه.
وبناءً على هذا فالصفات الإلهية من جهة المعنى معروفةٌ، لكن من جهة الكيف مجهولة كما هو مقرر في معتقد أهل السنة، ومن جعلها من المتشابه مطلقاً فقد أخطأ في ذلك، وهم أهل التأويل من علماء الكلام.
وكذا القول في الأحرف المقطعة، فيقال: إنَّ هذه أحرف لا معنى لها من جهة اللغة، فلا يُتطلَّب لها معنى بذاتها، ومن تطلَّب لها معنى فإنه سيقف على جهله بالمعنى ثم سيكلُ الأمر لله. ثم يجعلها من المتشابه الكلِّيِّ، وهي ليست كذلك.
ثم إنَّ في الأحرف أمراً آخر وهو أن يُقال: لم جُعلت الأحرف في هذه السور دون غيرها؟ لم جُعلت بعضُ الأحرف على حرف، وبعضها على حرفين وبعضها على خمسة؟ فيقال في هذا " الله أعلم" وهذا الجزء من المتشابه الكلِّيِّ، لكن لا يؤثر على إدراك المعنى لو كان لها معنى، فكيف وهي لا معنى لها؟ (١).
وأما الوجهة الثانية: فهي المغزى والحكمة (٢) من هذه الأحرف وهي ـ والله أعلم ـ أنها ذكرت بياناً لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها حكاه القرطبي عن الفراء (٣)
(١) ينظر: مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر لـ د/ مساعد الطيار ١٤٨ - ١٥٣.
(٢) ذكر ابن كثير في تفسيره قولين في الحكمة، غير الذي سنذكره
أولهما: ليعرف بها أوائل السور
ثانيهما: لتَفْتح لاستماعها أسماع المشركين إذا تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلا عليهم المؤلَّف منه. ووصفهما بالضعف ونقضهما ١/ ٣٧.
(٣) ينظر: تفسير القرطبي ١/ ٢٠٠.