وقد أورد ابن القيم في عدم التقديم والتأخير إلا إذا ترك دليل يدل عليه كلاماً مفيداً فقال " فإنه نظم الكلام الطبيعي المعتاد الذي علَّمه الله للإنسان نعمة منه عليه أن يكون جارياً على المألوف المعتاد منه، فالمقدم مقدم والمؤخر مؤخر، فلا يفهم أحد قط من المضاف والمضاف إليه في لغة العرب إلا تقديم هذا وتأخير هذا، وحيث قدموا المؤخر من المفعول و نحوه، وأخروا المقدم من الفاعل ونحوه، فلا بد أن يجعلوا في الكلام دليلاً على ذلك لئلا يلتبس الخطاب .. فلا يأتون بالتقديم والتأخير إلا حيث لا يلتبس على السامع، ولا يقدح في بيان مراد المتكلم لقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} الروم: ٤٧ـ وذكر غيرها من الآيات - ثم قال: فهذا من التقديم والتأخير الذي لا يقدح في المعنى ولا في الفهم وله أسباب تحسِّنه وتقتضيه مذكورة في علم البيان والمعاني" (١)
ورحم الله الحسين حينما ذكر أنَّ في هذه الآية الواضحة الدلالة " تقديماً وتأخيراً " وقد كانت الآية في اليهود والنصارى عندما آثروا اليهودية والنصرانية على دين الإسلام؛ لأنَّ ملة إبراهيم هي الحنيفية المسلمة (٢).
وقوله: " لقد اصطفيناه "
والاصطفاء: الاختيار، افتعال من الصفوة، ومنه النبي المصطفى (٣).
ومعنى الاصطفاء: أنه نبأه واتخذه خليلاً (٤)
وقوله {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
قال الزجاج: " فالصالح في الآخرة هو الفائز (٥).
وما أجمل ما فسر به الطبري ـ قدَّس الله روحه ونور ضريحه ـ قوله جلَّ وعلا: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
فقال: " وإن إبراهيم في الدار الآخرة لمن الصالحين.
(١) الصواعق المرسلة ٢/ ٧١٤ - ٧١٦.
(٢) ينظر: تفسير الطبري ١/ ٦٠٨.
(٣) العين ٢/ ٤٠٣.
(٤) المحرر الوجيز ١/ ٢١٢، وقال النحاس: اصطفيناه: اصتفيناه أبدل من التاء طاء مطبقة كالصاد، وهي من مخرج التاء، ولم يجز أن تدغم الصاد لأنها لا تدغم إلا في أختيها الزاي والسين، لما فيهن من الصفير، ولكن يجوز أن تدغم التاء فيها في غير القرآن فتقول اصَّفَيناه. (إعراب القرآن ١/ ٢٦٣/ ٢٦٤)
(٥) معاني القرآن وإعرابه ١/ ٢١١.