أنذرهم سرا فلم يطيعوا، وأنذرهم جهارا فلم يرجعوا، فجمع بين الأمرين بقوله: {أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً} ومعنى "ثم" تنبيه على تباعد الأحوال؛ كقوله: {ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (١) وفيه ترق؛ لأن الإنذار خفية أخف، والإنذار جهرا أقوى، والجمع بين الأمرين أتم.
و {جِهاراً} منصوب ب {دَعَوْتُهُمْ} نصب المصدر؛ لأن الجهر أحد أنواع الدعاء؛ كقولهم قعد القرفصاء. وقيل: أراد ب {دَعَوْتُهُمْ جِهاراً} جاهرتهم جهارا، ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا، أي: دعوتهم دعاء مجاهرا به، أو مصدرا في موضع الحال؛ أي: مجاهرا.
أمرهم بالاستغفار يريد: التوبة عن الكفر والمعاصي، ورغبهم في الاستغفار والتوبة؛ فوعدهم بخير الدنيا وهو المطر والخصب وكثرة الأولاد كما قال: {وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (٢)، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} الآية (٣)، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} الآية (٤) {وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ} (٥).
وقيل: لما كذبوه بعد طول المدة أمسك الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة وروي سبعين، فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب، ورفع عنهم ما كانوا فيه.
وروي: أن عمر خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار؛ فقيل له: إنك لم تستسق؛ فقال:
لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها الغيث، ثم قرأ {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً} الآيات (٦). شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة.
(١) سورة البلد، الآية (١٧).
(٢) سورة الصف، الآية (١٣).
(٣) سورة الأعراف، الآية (٩٦).
(٤) سورة المائدة، الآية (٦٦).
(٥) سورة الجن، الآية (١٦).
(٦) رواه الطبري في تفسيره (٢٩/ ٩٣) ونسبه السيوطي في الدر المنثور (٤/ ٤٤٢) لابن سعد في الطبقات وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وأبن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في سننه. والمجاديح: واحدها: مجدح، وهو نجم من النجوم كانت العرب تزعم أنها تمطر به كقولهم الأنواء وهو المجدح أيضا. وقيل: هو الدبران؛ لأنه يطلع آخرا ويسمى حادي النجوم. ينظر: لسان العرب (جدح).