قوله: {قالَ رَبُّكِ} مفسر بقوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} وقد حكى لفظه يعني قال: هو عليّ ولو أراد حكاية المعنى لقال: هو عليه هين {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} معطوف على جملة مقدرة، والتقدير: لنكرمه ولنجعله؛ كقوله: {مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ} (١) فتقدم جبريل إليها ونفخ في جيب درعها، فحملت بعيسى. قيل: في ساعة واحدة. وقيل: في ثلاث ساعات. وقيل: لتسعة أشهر. وقيل: لثمان، ولم يعش مولود لثمان غيره. ومثل هذه الأقوال تشبه التكاذب؛ لأن الواقعة واحدة والكائن من هذه الأمور واحد (٢).
{مَقْضِيًّا} أي: مفروغا منه، كقول الشاعر من الكامل:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع (٣)
وفي الكتاب العزيز {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ} (٤) و {قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} (٥) {فَانْتَبَذَتْ} ذهبت ناحية به، أي: وهو معها حمل في بطنها. {مَكاناً قَصِيًّا} بعيدا عن أعين الناظرين وخوفا من الفضيحة والتعنيف.
{فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤)}
{فَأَجاءَهَا} فألجأها، وحقيقته جعلها تجيء. و {الْمَخاضُ} الطلق لتمخض الولد وحركته عند قرب الولادة {إِلى جِذْعِ} نخلة يابسة فقالت: {يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا}.
فإن قلت: فقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل" (٦) فكيف تمنّته
(١) سورة يوسف، الآية (٢١).
(٢) تنظر الأقوال في: النكت والعيون للماوردي (٢/ ٥٢٠ - ٥٢١).
(٣) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، ينظر في: تاج العروس للزبيدي (قضى)، تفسير القرطبي (١٥/ ٣٠١)، روح المعاني للألوسي (٢٢/ ١١٥)، غريب الحديث للخطابي (٢/ ١٨)، فتح القدير للشوكاني (٤/ ٤٤٨)، لسان العرب (صنع - قضى) والدرع المسردة: مستديرة الحلق، وقضاهما: فرغ من عملهما. والسوابغ: الدروع الطويلة.
(٤) سورة يوسف، الآية (٤١).
(٥) سورة مريم، الآية (٣٩).
(٦) رواه البخاري رقم (٥٦٧١)، ومسلم رقم (٢٦٨٠) عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لابد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي".