{لَمَجْنُونٌ} وأعاد موسى الجواب بمثل ذلك فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} ولوّح موسى بالجواب عن إساءة فرعون بنسبة موسى إلى الجنون فقال: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} يعني: أنتم أحق أن تنسبوا إلى الجنون.
قيل: كان حوله خمسمائة رجل في أيديهم الأساور، وكانت للملوك خاصة - أعني الأساور - وعم بقوله: {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} فلم خص بعد ذلك الآباء؟ لأن أقرب المنظور إليه أبو الإنسان وخاصته، ثم خصص المشرق والمغرب؛ لأن تعاقبهما بالشروق والغروب يدل على قادر يحركهما عالم بالمصلحة في ذلك، وهو مما لا يستطيع البشر المشاركة فيه، ولظهور هذا الدليل انتقل إبراهيم الخليل عن الاستدلال بالإحياء والإماتة إلى قوله: {قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} (١) فلا ينهم، فلما أغلظوا له في القول ونسبوه إلى الجنون قابل ذلك بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} و {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.
{قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤)}
قال له فرعون: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} ولم يقنع بأن يقول: لأسجننك وأراد {مِنَ الْمَسْجُونِينَ} الذين عرفت خبرهم، وكان من عادته أن يلقي المسجون في هوّة ذاهبة في الأرض وحده لا يسمع ولا يرى. الواو في قوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ} (١٥٦ /أ) واو الحال دخل الاستفهام عليها، أي: أتفعل بي ذلك ولو جئتك بحجة ظاهرة وآية بينة؟
وقوله: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ} محذوف الجزاء، أي: إن كنت من الصادقين فأت به.
{ثُعْبانٌ مُبِينٌ} أي: ظاهر كونه ثعبانا، وليس كالمصنوع المزوّر. روي أنها انقلبت حية ورفعت رأسها إلى السماء قدر ميل ثم انحطت وقصدت فرعون، وقالت لموسى: مرني بما شئت، فقال فرعون لموسى: أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها فأخذها فعادت عصا (٢).
(١) سورة البقرة، الآية (٢٥٨).
(٢) رواه الطبري في تفسيره (١٩/ ٧١)، ونسبه السيوطي في الدر المنثور (٣/ ٥١١) لأبي الشيخ عن المنهال.