نزل إبراهيم بهاجر وإسماعيل بين جبال مكة، وليس هناك بنيان، فسأل الله أن يجعل ذلك المكان بلدا، ثم جاء لزيارة ابنه فرآها قد صارت بلدا فسأل الله - تعالى - أن يجعل ذلك البلد آمنا، وسأل إبراهيم الرزق لمن آمن منهم بالله، فقال - تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} يعني: إني لا أقطع الرزق عن الكافر بسبب كفره، بل أرزق المؤمن، والكافر أمتعه قليلا.
قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} رفع البنيان سافا فوق ساف (١) وإذا رفع البنيان بالأساس فارتفع فقد رفعت القواعد. وقيل: يقال: قعد البناء ثبت بالقواعد وهي الأساس والأصل لما فوقه. وقيل: يرفع إبراهيم ما سقط من جدران البيت.
أي: قائلين: {رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا} وهذا الفعل في محل النصب على الحال.
وقوله: {رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا} إلى آخره، جمل ثلاث بعد القول حال أي: يرفعانها قائلين هذا القول. وقوله عليه السّلام: «أنا دعوة إبراهيم» (٢) حين قال: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} {سَفِهَ نَفْسَهُ}. أهانها وبخسها؛ كما تقول: سفهت نفس زيد، فحول وصار «سفه زيد نفسا» (١١ /أ) كقولك: تصبب عرق زيد، وتصبب زيد عرقا، ثم اتصل الضمير بالنفس، فصار: سفه نفسه.
{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ} تقديره: وإنه صالح في الآخرة من الصالحين، ولا يجوز أن تعمل الصالحين في قوله: {فِي الْآخِرَةِ}؛ لأن اللام في الصالحين موصولة، ومعمول الصلة لا يجوز أن يتقدم على الموصول. كذلك قوله: {وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ} يوسف: ٢٠.
وأجاز ابن السراج (٣) أن يعمل فيما تقدم من المجرور وغيره، وجعل الألف واللام غير
(١) الساف في البناء: كل صف من اللبن يقال: ساف من البناء سافان وثلاثة آسف. وقيل: كل سطر من اللبن والطين في الجدار ساف ومدماك. ينظر: لسان العرب (سوف).
(٢) رواه أحمد في المسند (٤/ ١٢٧)، والحاكم في المستدرك (٢/ ٦٠٠)، والبيهقي في دلائل النبوة (١/ ٨٣ - ٨٤) قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (١٥٤٥).
(٣) هو محمد بن السري أبو بكر بن السراج النحوي، أحد العلماء المشهورين باللغة والنحو والأدب، أخذ عن المبرد، وأخذ عنه أبو القاسم الزجاجي والسيرافي والفارسي، وله مصنفات منها: الأصول وغيره -