يكثر الجلوس فى بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبىّ ﷺ وأصحابه. يعنى النّظر فى الحديث.
وعن أبى نعيم، أنّه قال: كان ابن المبارك يتّجر، ويقدم كلّ سنة مكة، فيبعث بالصّرر إلى أربابها، كفضيل بن عياض، وابن عيينة، وابن عليّة وغيرهم، فقدم سنة مكة، فوجد ابن عليّة قد ولى الصّدقات لهارون الرّشيد، فبعث بالصّرر إلى أربابها، ولم يبعث إلى ابن عليّة شيئا، وكان يعطيه فى كلّ سنة خمسمائة درهم، فركب ابن عليّة إليه، فسلّم عليه، فلم يرفع له رأسا، ولم يكلّمه، فكتب إليه: أسعدك الله بطاعته، وتولاّك بحفظه، وحاطك بحياطته، قد كنت منتظر البرّ والصّلة منك، لأتبرّك بها، وجئتك مسلّما، فلم تكلّمنى، فأىّ شئ بدا منّى، فعرّفنى حتى أعتذر منه.
فلما قرأها ابن المبارك، قال: يأبى هذا الرجل إلاّ أن أقشر له العصا. وكتب إليه، رحمه الله تعالى (١):
يا جاعل العلم له بازيا … يصيد أموال المساكين (٢)
احتلت للدّنيا ولذّاتها … بحيلة تذهب بالدّين
فصرت مجنونا بها بعد ما … كنت دواء للمجانين
أين رواياتك فى سردها … عن ابن عون وابن سيرين
أين أحاديثك والقول فى … لزوم أبواب السّلاطين (٣)
إن قلت أكرهت فما كان ذا … زلّ حمار العلم فى الطّين (٤)
فلما قرأ الأبيات بكى، ودخل على هارون، فاستعفاه فقال: لعلّك التقيت بالمروزىّ؟ فقال له: ارحم شيبى. فأقاله، فبعث إليه ابن المبارك برسمه.
وعن الأصمعىّ، قال: سمعت ابن المبارك يقول: إنّه ليعجبنى من القرّاء كلّ طلق مضحاك، فأمّا من تلقاه بالبشر ويلقاك بالعبوس، كأنّه يمنّ عليك بعمله، فلا أكثر الله فى القرّاء مثله.
(١) الشعر فى: سير أعلام النبلاء ٨/ ٣٦٤، طبقات الشافعية الكبرى ١/ ٢٨٥، الورقة ١٥.
(٢) فى السير والطبقات: «يصطاد».
(٣) فى السير والطبقات والورقة:
أين رواياتك فيما مضى … فى ترك أبواب السلاطين
(٤) سقط قوله: «كان ذا» من النسخ، وهو من الورقة، ومكانه فى السير والطبقات: «ذا كذا».