قلت: هذه الأبيات الثّلاثة، ضمّنها ابن فهد مع تغيير يسير، ثلاثة أعجاز من مقطوع، قاله المنازىّ (١) الشاعر المشهور، يصف واديا كثير الأشجار، طيّب التّربة، حسن المنظر، يقال له وادى بزاعة (٢)، من نواحى حلب، وهو:
وقانا لفحة الرّمضاء واد … سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا … حنوّ المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا … ألذّ من المدامة للنّديم
يراعى الشمس أنّى واجهتنا … فيحجبها ويأذن للنّسيم
يروع حصاه حالية العذارى … فتلمس جانب العقد النّظيم
وللمنازىّ أيضا مقطوع غير هذا فى غاية الحسن، من قبيل المطرب والمرقّص، لا بأس بإيراده هنا عند أخيه، ولم يشتهر للمنازىّ غير هذين المقطوعين، وله «ديوان شعر»، تطلّبه القاضى الفاضل من أقاصى البلاد وأدانيها، فلم يظفر به (٣)، والمقطوع الثانى هو قوله (٤):
إذا صدح الحمام لنا بسجع … واصغى نحوه وطب تلاحى (٥)
شجى قلب الخلىّ فقيل غنّى … وبرّح بالشّجىّ فقيل ناحا
وكم للشّوق فى أحشاء صبّ … إذا اندملت أجدّ له جراحا
ضعيف الصّبر عنك وإن تناءى … وسكران الفؤاد وإن تصاحى
كذاك بنو الهوى سكرى صحاة … كأحداق الظّبى مرضى صحاحا
والعذر فى إيراد هذين المقطوعين بتمامهما واضح بيّن، وهو قلّة وجود مثلهما رقّة، ولطافة، وانسجاما، وحسن سبك، خصوصا بعد حصول المناسبة، وقولهم: الشئ بالشئ يذكر. ويكفى لنا فى مدح هذين المقطوعين حجّة شهادة أبى العلاء المعرّىّ، إمام الفنّ، وقائد زمام البلاغة، وفارس ميدان الفصاحة، وذلك فيما روى من أنّ المنازىّ، قدم يوما
(١) أبو نصر أحمد بن يوسف المنازى، شاعر وزر لأحمد بن مروان، صاحب ميافارقين، توفى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. معجم البلدان ٤/ ٦٤٨، وفيات الأعيان ١/ ١٤٣ - ١٤٥.
(٢) ذكر ياقوت أنه سمع من أهل حلب من يقوله بالضم والكسر، ومنهم من يقول: بزاعى. بالقصر، وهى بلدة من أعمال حلب، فى وادى بطنان، بين منبج وحلب. معجم البلدان ١/ ٦٠٣.
(٣) الأبيات فى: وفيات الأعيان ١٤٤،١/ ١٤٣، نفح الطيب ٤/ ٢٨٨، طراز المجالس ٤، معاهد التنصيص ١/ ٢٤٨. وتنسب الأبيات إلى حمدة أو حمدونة بنت زياد المؤدب. انظر: نفح الطيب.
(٤) ذكر هذا ابن خلكان، فى وفيات الأعيان ١/ ١٤٤.
(٥) الوطب: سقاء اللبن.