ثم نهض، فقال: أمتع الله الإسلام وأهله ببقائك يا أمير المؤمنين؛ فإنّك كما قال النّمرىّ لأبيك الرّشيد (١):
إن المكارم والمعروف أودية … أحلّك الله منها حيث تجتمع (٢)
من لم يكن بأمين الله معتصما … فليس بالصّلوات الخمس ينتفع (٣)
فقيل للمعتصم فى ذلك، لأنه عاده، وليس يعود إخوته وأجلاّء أهله، فقال المعتصم:
وكيف لا أعود رجلا، ما وقعت عينى عليه قطّ إلاّ ساق إلىّ أجرا، أو أوجب لى شكرا، أو أفادنى فائدة تنفعنى فى دينى ودنياى، وما سألنى حاجة لنفسه قطّ.
وروى الخطيب فى «تاريخه» بسنده، عن ابن الأعرابىّ، أنه قال: سأل رجل قاضى القضاة أحمد بن أبى دواد أن يحمله على عير، فقال: يا غلام، أعطه عيرا، وبرذونا، وفرسا، وجارية.
ثم قال، أما والله لو عرفت مركوبا غير هذا لأعطيتك.
فشكر له الرجل، وقاد ذلك كلّه، ومضى، انتهى.
قلت: ومثل ذلك مروىّ عن معن بن زائدة الشيبانىّ، وهو متقدّم على ابن أبى دواد فى الجود والوجود، فلعلّ ابن أبى دواد حكى مكارمه الوافرة، وضارع أخلاقه الظاهرة (٤).
ومن لطيف ما يحكى هنا، ويشهد لما ذكرنا، عن الصّاحب أبى القاسم إسماعيل بن عبّاد (٥)، أنه كان يعجبه الخزّ، ويأمر بالاستكثار منه فى داره، فنظر أبو القاسم الزّعفرانىّ يوما إلى جميع ما فيها من الخدم والحاشية، وعليهم الخزوز الفاخرة الملوّنة، فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئا، فنظر إليه الصّاحب، وقال: علىّ به.
(١) البيتان فى الأغانى ١٣/ ١٤٧، مع تقديم وتأخير.
(٢) فى الأغانى: «حيث تتسع».
(٣) صدر هذا البيت فى الأغانى:
*أىّ امرئ بات من هارون فى سخط *
(٤) فى ص: «الطاهرة»، والمثبت فى: ط، ن.
(٥) القصة والشعر الآتى فى يتيمة الدهر ١٩٥،٣/ ١٩٤.