فِي الْغَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَحَقَّقَ فِي الْبَحْرِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ يُعْمَلُ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ بِعَشْرٍ فِي عَشْرٍ لَا يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَرُدَّ مَا أَجَابَ بِهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ، لَكِنْ فِي النَّهْرِ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَشْرِ أَضْبَطُ وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ لَا رَأْيَ لَهُ مِنْ الْعَوَامّ، فَلِذَا أَفْتَى
ــ
رد المحتار
وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُطَوَّلَاتِ.
(قَوْلُهُ: وَحَقَّقَ فِي الْبَحْرِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ) أَيْ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ وَأَكْثَرَ مِنْ النُّقُولِ الصَّرِيحَةِ فِي ذَلِكَ: أَيْ فِي أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ تَفْوِيضُ الْخُلُوصِ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ بِلَا تَقْدِيرٍ بِشَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ رُجُوعِ مُحَمَّدٍ عَنْ تَقْدِيرِهِ بِعَشْرٍ فِي عَشْرٍ لَا يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيرَهُ إلَّا فِي نَظَرِهِ، وَهُوَ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ كَوْنُهُ مَا اسْتَكْثَرَهُ الْمُبْتَلَى فَاسْتِكْثَارُ وَاحِدٍ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ، بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِ كُلٍّ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا عَلَى الْعَامِّيِّ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ ذَكَرَهُ الْكَمَالُ. اهـ. أَقُولُ: لَكِنْ ذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْغَدِيرَ الْعَظِيمَ مَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحْرِيكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَفِي الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَفِي الزَّيْلَعِيِّ، قِيلَ يُعْتَبَرُ بِالتَّحْرِيكِ، وَقِيلَ بِالْمِسَاحَةِ. وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ حَتَّى قَالَ فِي الْبَدَائِعِ وَالْمُحِيطِ: اتَّفَقَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ أَنْ يَرْتَفِعَ وَيَنْخَفِضَ مِنْ سَاعَتِهِ لَا بَعْدَ الْمُكْثِ، وَلَا يُعْتَبَرُ أَصْلُ الْحَرَكَةِ. وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة أَنَّهُ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ اهـ وَهَلْ الْمُعْتَبَرُ حَرَكَةُ الْغُسْلِ أَوْ الْوُضُوءِ أَوْ الْيَدِ؟ رِوَايَاتٌ ثَانِيهَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ الْوَسَطُ كَمَا فِي الْمُحِيطِ وَالْحَاوِي الْقُدْسِيِّ، وَتَمَامُهُ فِي الْحِلْيَةِ وَغَيْرِهَا. وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ اعْتِبَارَ الْخُلُوصِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِلَا تَقْدِيرٍ بِشَيْءٍ مُخَالِفٌ فِي الظَّاهِرِ لِاعْتِبَارِهِ بِالتَّحْرِيكِ؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الظَّانِّينَ، وَتَحَرُّكُ الطَّرَفِ الْآخَرِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ مُشَاهَدٌ لَا يَخْتَلِفُ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْقُولٌ عَنْ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَظْهَرُ لِي التَّوْفِيقُ بِأَنَّ الْمُرَادَ غَلَبَةُ الظَّنِّ وَأَنَّهُ لَوْ حَرَّكَ لَوَصَلَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّحْرِيكُ بِالْفِعْلِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَرُدَّ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ صَدْرَ الشَّرِيعَةِ بَنَى تَقْدِيرَهُ بِالْعَشْرِ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» فَيَكُونُ لَهُ حَرِيمُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةٌ، فَيَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ حَفْرِ بِئْرٍ فِي حَرِيمِهَا لِئَلَّا يَنْجَذِبَ الْمَاءُ إلَيْهَا وَيَنْقُصَ مَاءُ الْأُولَى، وَيَمْنَعُ أَيْضًا مِنْ حَفْرِ بَالُوعَةٍ فِيهِ لِئَلَّا تَسْرِيَ النَّجَاسَةُ إلَى الْبِئْرِ، وَلَا يَمْنَعُ فِيهَا وَرَاءَ الْحَرِيمِ وَهُوَ عَشْرٌ فِي عَشْرٍ قَالَ: فَعُلِمَ أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ الْعَشْرَ فِي الْعَشْرِ فِي عَدَمِ سِرَايَةِ النَّجَاسَةِ. وَرَدَّهُ فِي الْبَحْرِ بِأَنَّ الصَّحِيحَ فِي الْحَرِيمِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَبِأَنَّ قِوَامَ الْأَرْضِ أَضْعَافُ قِوَامِ الْمَاءِ فَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ فِي عَدَمِ السِّرَايَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَبِأَنَّ الْمُخْتَارَ الْمُعْتَمَدَ فِي الْبُعْدِ بَيْنَ الْبِئْرِ وَالْبَالُوعَةِ نُفُوذُ النَّجَاسَةِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِصَلَابَةِ الْأَرْضِ وَرَخَاوَتِهَا.
(قَوْلُهُ: لَكِنْ فِي النَّهْرِ إلَخْ) قَدْ تَعَرَّضَ لِهَذَا فِي الْبَحْرِ أَيْضًا، ثُمَّ رَدَّهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْمَلُ بِمَا صَحَّ مِنْ الْمَذْهَبِ لَا بِفَتْوَى الْمَشَايِخِ وَالْوَجْهُ مَعَ صَاحِبِ الْبَحْرِ. وَإِذَا اطَّلَعْت عَلَى كَلَامِهَا جَزَمْت بِذَلِكَ أَفَادَهُ ط. أَقُولُ: وَهُوَ الَّذِي حُطَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ وَتِلْمِيذِهِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ أَمِيرٍ الْحَاجِّ، لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُحَشِّينَ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ الْعَلَّامَةِ سَعْدِ الدِّينِ الدِّيرِيِّ فِي رِسَالَتِهِ الْقَوْلُ الرَّاقِي فِي حُكْمِ مَاءِ الْفَسَاقِيِ أَنَّهُ حَقَّقَ فِيهَا مَا اخْتَارَهُ أَصْحَابُ الْمُتُونِ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَشْرِ وَرَدَّ فِيهَا عَلَى مَنْ قَالَ بِخِلَافِهِ رَدًّا بَلِيغًا، وَأَوْرَدَ نَحْوَ مِائَةِ نَقْلٍ نَاطِقَةٍ بِالصَّوَابِ إلَى أَنْ قَالَ:
وَإِذَا كُنْت فِي الْمَدَارِكِ غُرًّا ... ثُمَّ أَبْصَرْت حَاذِقًا لَا تُمَارِي
وَإِذَا لَمْ تَرَ الْهِلَالَ فَسَلِّمْ ... لِأُنَاسٍ رَأَوْهُ بِالْأَبْصَارِ
لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِالْعَشْرِ كَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَقَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ التَّرْجِيحِ هُمْ أَعْلَمُ بِالْمَذْهَبِ