وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: حِفْظُ الْفُرُوعِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثٌ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إنَّمَا الْفَقِيهُ الْمُعْرِضُ عَنْ الدُّنْيَا، الزَّاهِدُ فِي الْآخِرَةِ، الْبَصِيرُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ
ــ
رد المحتار
وَثَانِيًا أَنَّ الْعِلْمَ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّيَّاتِ وَتَمَامُهُ فِيهِ فَافْهَمْ. وَالْأَحْكَامُ جَمْعُ حُكْمٍ، قِيلَ هُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ. وَرَدَّهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ مَجَازًا كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ ثُمَّ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً. وَخَرَجَ بِهَا الْعِلْمُ بِالذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَالْمُرَادُ بِالشَّرْعِيَّةِ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ مَا لَا يُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ بِنَفْسِ الْحُكْمِ أَوْ بِنَظِيرِهِ الْمَقِيسِ هُوَ عَلَيْهِ كَالْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ، فَيَخْرُجُ عَنْهَا مِثْلَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَالْأَحْكَامِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْعَقْلِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ، أَوْ مِنْ الْحِسِّ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ النَّارَ مُحْرِقَةٌ، أَوْ مِنْ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْفَاعِلَ مَرْفُوعٌ، وَالْمُرَادُ بِالْفَرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَسَائِلِ الْفُرُوعِ، فَخَرَجَ الْأَصْلِيَّةُ كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقِيَاسِ حُجَّةً. وَأَمَّا الِاعْتِقَادِيَّةُ كَكَوْنِ الْإِيمَانِ وَاجِبًا فَخَرَجَ بِالشَّرْعِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَافْهَمْ، وَقَوْلُهُ عَنْ أَدِلَّتِهَا أَيْ نَاشِئًا عَنْ أَدِلَّتِهَا حَالٌ مِنْ الْعِلْمِ: أَيْ أَدِلَّتُهَا الْأَرْبَعَةُ الْمَخْصُوصَةُ بِهَا وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، فَخَرَجَ عِلْمُ الْمُقَلِّدِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ دَلِيلًا لَهُ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَخَرَجَ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِالدَّلِيلِ كَعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَاخْتُلِفَ فِي عِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَاصِلِ عَنْ اجْتِهَادٍ، هَلْ يُسَمَّى فِقْهًا؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لِلْحُكْمِ لَا يُسَمَّى فِقْهًا، وَبِاعْتِبَارِ حُصُولِهِ عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يُسَمَّى فِقْهًا اصْطِلَاحًا. اهـ.
وَأَمَّا الْمَعْلُومُ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِثْلُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَقِيلَ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ، إذْ لَيْسَ حُصُولُهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَجَعَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ مِنْهُ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ وُصُولَهُ إلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ عَارِضٌ لِكَوْنِهِ صَارَ مِنْ شِعَارِ الدِّينِ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ فِي الْأَصْلِ ثَابِتًا بِالدَّلِيلِ، إذْ لَيْسَ هُوَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ كَكَوْنِ الْكُلِّ أَعْظَمَ مِنْ الْجُزْءِ نَعَمْ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ خَصَّ الْفِقْهَ بِالظَّنِّيِّ، وَقَوْلُهُ التَّفْصِيلِيَّةُ تَصْرِيحٌ بِلَازِمٍ كَمَا حَقَّقَهُ فِي التَّحْرِيرِ، وَغَلِطَ مَنْ جَعَلَهُ لِلِاحْتِرَازِ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَحْقِيقَاتٌ ذَكَرْتهَا فِي مِنْحَةِ الْخَالِقِ فِيمَا عَلَّقْته عَلَى الْبَحْرِ الرَّائِقِ .
(قَوْلُهُ: وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ إلَخْ) قَالَ فِي الْبَحْرِ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِقْهَ فِي الْأُصُولِ عِلْمُ الْأَحْكَامِ مِنْ دَلَائِلِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَيْسَ الْفَقِيهُ إلَّا الْمُجْتَهِدُ عِنْدَهُمْ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُقَلِّدِ الْحَافِظِ لِلْمَسَائِلِ مَجَازٌ. وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ بِدَلِيلِ انْصِرَافِ الْوَقْتِ وَالْوَصِيَّةِ لِلْفُقَهَاءِ إلَيْهِمْ. وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ كَمَا فِي الْمُنْتَقَى. وَذَكَرَ فِي التَّحْرِيرِ أَنَّ الشَّائِعَ إطْلَاقُهُ عَلَى مَنْ يَحْفَظُ الْفُرُوعَ مُطْلَقًا يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَتْ بِدَلَائِلِهَا أَوْ لَا اهـ لَكِنْ سَيَذْكُرُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ أَنَّ الْفَقِيهَ مَنْ يُدَقِّقُ النَّظَرَ فِي الْمَسَائِلِ وَإِنْ عَلِمَ ثَلَاثَ مَسَائِلَ مَعَ أَدِلَّتِهَا، حَتَّى قِيلَ مَنْ حَفِظَ أُلُوفًا مِنْ الْمَسَائِلِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ. اهـ. لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا حَيْثُ لَا عُرْفَ وَإِلَّا فَالْعُرْفُ الْآنَ هُوَ مَا ذَكَرَ فِي التَّحْرِيرِ أَنَّهُ الشَّائِعُ. وَقَدْ صَرَّحَ الْأُصُولِيُّونَ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَنْصَرِفُ فِي كَلَامِ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي إلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي زَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ الْعُرْفِيَّةُ فَتُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ الْأَصْلِيَّةُ.
(قَوْلُهُ: وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ) هُمْ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ الْمُوصِلَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَقِيقَةُ لُبُّ الشَّرِيعَةِ وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ.
(قَوْلُهُ: الزَّاهِدُ فِي الْآخِرَةِ) كَذَا فِي الْبَحْرِ. وَاَلَّذِي فِي الْغَزْنَوِيَّةِ الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ ابْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. أَقُولُ: وَمِثْلُهُ فِي الْإِحْيَاءِ لِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ بِزِيَادَةٍ حَيْثُ قَالَ: سَأَلَ فَرْقَدٌ السِّنْجِيُّ الْحَسَنَ عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَهُ، فَقَالَ إنَّ الْفُقَهَاءَ يُخَالِفُونَك،