إذا رحلت من منزل رجعت له
... لعمر أبيها إننى لا أهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة
... رفاق من الذبان زرق عيونها
حديث الأنبار «1» وهى ذات العيون «2»
وخرج خالد فى تعبيته التى خرج فيها من الحيرة، على مقدمته الأقرع بن حابس.
فلما نزل الأقرع المنزل الذى يسلمه إلى الأنبار نتج قوم من المسلمين إبلهم، فلم يستطيعوا العرجة، ولم يجدوا بدا من الإقدام، ومعهم بنات مخاض تتبعهم. فلما نودى بالرحيل صروا الأمهات، واحتقبوا المنتوجات؛ لأنها لم تطق السير، فانتهوا ركبانا إلى الأنبار، وقد تحصن أهلها، وخندقوا عليها، فأشرفوا من حصنهم، وعلى الجنود التى قبلهم شيرزاد صاحب ساباط «3» ، وكان أعقل أعجمى يومئذ وأسوده، فتصايح عرب الأنبار وقالوا:
صبح الأنبار شر، جمل يحمل جميلة وجمل تربه عوذ. فقال شيرزاد، وقد سأل عن ما يقولون، فأخبر به: أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم، والله لئن لم يكن خالد مجتازا لأصالحنه، فبينما هم كذلك قدم خالد على المقدمة، فأطاف بالخندق، وأنشب القتال، وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به، وتقدم إلى رماته، فأوصاهم وقال: إنى أرى أقواما لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم ولا توخوا غيرها، فرموا رشقا واحدا، ففقئت ألف عين يومئذ، فسميت تلك الوقعة ذات العيون، وتصايح القوم: عيون أهل الأنبار فراسل شيرزاد خالدا فى الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله، وأتى خالد أضيق مكان فى الخندق فنحر رذايا الجيش ثم رمى فيه فأفعمه، ثم اقتحموا الخندق والرذايا جسورهم، فاجتمع المسلمون والمشركون فى الخندق، وأرز القوم إلى حصنهم، وراسل شيرزاد فى الصلح على مراد خالد، فقبل منه خالد على أن يخليه ويلحقه بمأمنه فى جريدة خيل، ليس معهم من المتاع والمال شىء، فخرج شيرزاد، فلما قدم على بهمهن جاذويه وأخبره الخبر لامه، فقال له شيرزاد: إنى كنت فى قوم ليست لهم عقول، وأصلهم من العرب، فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم، وقلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم. ثم قاتلهم الجند، ففقئوا فيهم وفى أهل الأرض ألف عين، فعرفت أن المسألة أسلم، وأن قرة العين لهم، وأن العيون لا تقر منهم بشىء.