فَأَمَرَ بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِرَتْ، فَسَأَلْته عَن ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَن ثَمَنِ
الدَّم (١).
قَالَ هَؤُلَاءِ: فَتَسْمِيَتُهُ خَبِيثًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ كَتَحْرِيمِ مَهْرِ الْبَغِيَّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ.
قَالَ الْأَوَّلُونَ: قَد ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "مَن أَكَلَ مِن هَذَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَن مَسْجِدَنَا" (٢)، فَسَمَّاهُمَا خَبِيثَتَيْنِ بِخُبْثِ رِيحِهِمَا وَلَيْسَتَا حَرَامًا.
وَقَالَ: "لَا يُصَلِّيَن أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثِينَ" (٣)؛ أَيْ: الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ.
فَيَكُونُ تَسْمِيَتُهُ خَبِيثًا لِمُلَاقَاةِ صَاحِبِهِ النَّجَاسَةَ لَا لِتَحْرِيمِهِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَعْطَى الْحَجُّامَ أَجْرَهُ وَأَذِنَ لَه أَنْ يُطْعِمَهُ الرَّقِيقَ وَالْبَهَائِمَ.
وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَلَا يُطْعَمُ مِنْهُ رَقِيقٌ وَلَا بَهِيمَةٌ.
وَبِكُلِّ حَالٍ: فَحَالُ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لَيْسَتْ كَحَالِ الْمُسْتَغْنِي عَنْهُ، كَمَا قَالَ السَّلَفُ: كَسْبٌ فِيهِ بَعْضُ الدَّنَاءَةِ خَيْرٌ مِن مَسْأَلَةِ النَّاسِ.
وَلِهَذَا لَمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ: كَانَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ: أَعْدَلُهَا أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُحْتَاجِ.
قَالَ أَحْمَد: أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ خَيْرٌ مِن جَوَائِزِ السُّلْطَانِ، وَجَوَائِزُ السُّلْطَانِ خَيْرٌ مِن صِلَةِ الْإِخْوَانِ.
وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ وَغَيْرِهِ، كَمَا فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَلِهَذَا أُبِيحَت الْمُحَرَّمَاتُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، لَا سِيَّمَا إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَعْدِلُ عَن ذَلِكَ إلَى سُؤَالِ النَّاسِ؛ فَالْمَسْأَلَةُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا.
(١) رواه البخاري (٢٢٣٨)، ولم أجده في مسلم.
(٢) رواه أحمد (١٦٢٤٧).
(٣) رواه مسلم (٥٦٠).