أو يتذكر في أن يتلهف على ما فرط في جنب اللَّه من التقصير في حقوقه، والتضييع الذي سبق منه حيث لم يشكر نعمه، ولم يوجه إليه العبادة؛ فيكون تلهفه ذلك إيمانا، ولكن لا ينفعه تلهفه في ذلك الوقت؛ لأن تلك الدار ليست بدار امتحان، بل هي دار جزاء، والذي يحمله على التصديق مشاهدته الجزاء والحساب، وعند المشاهدة ترتفع المحنة، ويكون إيمانه ذلك ضروريا لا حقيقة؛ فلذلك لا ينفعه، وإنما ينفعه الطاعة وقت ملكه نفسه، فأما إذا خرج ملك نفسه من يده، لم يقع له بالإيمان جدوى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ)، أي: يتعظ، (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)، أي: أنى له الانتفاع بالموعظة.
ثم في هذا التذكير بيان لطف من اللَّه تعالى بعظته حتى يتذكر، وإلا فالإنسان يذهب عليه ما قد كتبه في وقت إذا أتى عليه حين، حتى لو أراد أن يتذكر وقت كتابته لم يقدر عليه، ثم اللَّه - تعالى - يذكره في الآخرة جميع ما سبق منه في الدنيا فيتذكر ذلك؛ فيقول: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (٢٤) أي: يا ليتني قدمت لنفسي حياة تسلم لي، أو حياة تبقى لي لذتها، فهذا هو تلهفه وتذكره في ذلك اليوم، يتلهف على ما فاته من الخيرات، ويندم على ارتكابه المعاصي وكفرانه نعم اللَّه تعالى.
ومعنى قولنا: حياة تسلم لي؛ فأتلذذ بها: هو أن الكافر، وإن كانت له حياة في الظاهر، فإنما حياته للتعذيب، فتلك له في الحقيقة ليست بحياة، بل هي إهلاك؛ ألا ترى أن الإنسان إذا أخذ في النزع فهو في ذلك الوقت حي بعد، لكن حياته للإهلاك، فليست هي في الحقيقة حياة لكنها إهلاك فعلى ذلك حياة المخلد في النار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦):
قرئت هذه الآية على نصب الذال والثاء، وعلى الخفض فيهما:
فمن قرأهما على الخفض فهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن العذاب في الدنيا وإن اشتد من الملوك على الإنسان، فهو لا يبلغ عذاب اللَّه تعالى لأعدائه في الآخرة وإن خف.
أو (لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ)، أي: لا ينبغي لأحد في الدنيا أن يعذب أحدا بعذاب اللَّه -