فقال: لا يأتيكما من عند الملك أو من عند أهلكما أو أصدقائكما ما تحتاجان إليه من الطَّعام في السِّجن إلَّا أخبرتكما به قبلَ مجيئِه، وهو قوله: {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} وهو خبرٌ عن الغائب، وذلك كقول عيسى عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} آل عمران: ٤٩.
فكأنَّهما قالا له: فكيفَ تعلمُ ذلك وهو غيبٌ؟ فقال: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}.
فكأنَّهما قالا: ولِم خصَّك ربُّك بالتَّعليم دوننا؟ فقال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وليس هو تَرْكًا بعد الكونِ فيها، بل هو الامتناع عنها أصلًا، وإخبارٌ أنَّه لم يكن فيها قطُّ، ولا يخصُّ اللَّه تعالى بهذا العلم -الَّذي هو كرامةٌ- مَنْ كفرَ به وجحدَه، بل يكرمُ به مَن آمنَ به وصدَّقه ووحَّده وعبدَه.
* * *
(٣٨) - {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}.
فكأنَّهما قالا له: إذا لم تكن أنت في هذه الملَّة؛ فعلى أيِّ ملَّةٍ أنت؟ فقال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ} وهو الجدُّ، جدُّ الأب يسمَّى أبًا؛ لأنَّه أبو أبِ الأب، {وَإِسْحَاقَ} هو أبُ الأب، {وَيَعْقُوبَ} هو أبوه حقيقة.
فكأنَّهما قالا: وكيف كانت ملَّتهم؟ فقال: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.
فكأنَّهما قالا: وكيف اهتديتم إليها؟ فقال: {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}؛ أي: لا يشكرون الخالق على نعمِه بالطَّاعة له في أمرِه ونهيِه.
وقيل: لا يعلمون النِّعمَ مِن اللَّه فيشكروا له عليها.