فإن قالوا: كيف عَلم الملائكةُ أنَّ مِن أولاد آدمَ مَن يكون كذلك، ولم يكلَّموا بهذا الكلام؟
قيل: لأنَّهم رَأَوا الجنَّ بني الجانِّ قد أَفسدوا فيها وسَفكوا الدماءَ، ولهم شهوةٌ ونهمةٌ وتوالُدٌ وتناسلٌ، والملائكة لم يكن لهم ذلك، فلم يَكن منهم ذلك، فقاسوا آدم وأولاده -ولهم تناسلٌ وتوالدٌ وشهواتٌ- أنَّهم يكونون كذلك، ولكنَّ هذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ سُكنى ساكنٍ في دارٍ وإفسادَه (١) فيها، لا يدلُّ على أنَّه إذا ذهب وجاء غيرُه عَمِلَ (٢) عملَه، ولهذا لم تفسد الملائكة الذين جاؤوا بعدهم.
والجواب الصحيح ما قاله ابنُ عباس وابنُ مسعود والحسن وابنُ جريج ومحمد بنُ إسحاق: إنَّ اللَّهَ تعالى أَخبرهم بذلك وأَذِن لهم في السؤال؛ بدليلِ أنَّهم قالوا بعد ذلك: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}.
ثمَّ هذا الكلام منهم بعدَ العلم لم يَكن طعنًا فيهم ولا اعتراضًا على اللَّه، بل له وجوهٌ صحيحةٌ:
أحدها: أنَّه للتعجُّب؛ كما في قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} الصافات: ١٢٥ وهو مِن وجهين:
أحدهما: التعجُّب مِن استخلاف اللَّهِ تعالى إيَّاهم مع علمه بحالهم.
والثاني: التعجُّب مِن إفسادهم وسفكِهم مع كثرة نِعَمِ اللَّهِ عليهم.
وآخَرُ: أنَّه سؤالُ الحِكمةِ، لا الاعتراضِ على الحُكم؛ قال اللَّه تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} الأنبياء: ٢٣، ويدلُّ على ذلك أنَّ اللَّه قال في حقِّهم: {لَا يَسْبِقُونَهُ
(١) في (ر): "سكنى ساكني دار وإفسادهم".
(٢) في (أ): "يعمل".