يقول: استجيدوا القوافى، فإنها حوافر الشعر. وقال لى الشجرى فى بعض كلامه: القافية رأس البيت، وهذا ليس نقضا للأول، وإنما غرضه فيه أنها أشرف ما فيه، كما أن حوافر الفرس هى أوثق ما فيه، وبها نهوضه، وعليها اعتماده. ولقد تغنىّ يوما خفير لنا بشعر مؤسس نحو قوله:
ألا علّلانى قبل لوم العواذل
فلعهدى به وهو يمطل الألف حتى يخطو به فرسه الخطوة والعشرين، ولولا ظاهر ما فى القول لقلت الأكثر. فإذا تجاوز الألف أسرع عند الدخيل، فاختلس الذال والروى بعدها. وكان أيضا يمدّه بتقبّل صدى صوته مع تماديه واغتراق أقصى النفس فيه ما كان يعطيه إياه نقل الفرس به، فإن ذلك كان يهزّ الألف، ويصنعها، ويزيل تحيرها والسّاذجيّة المملولة عنها.
وعلى ذكر طول الأصوات وقصرها لقوة المعانى المعبّر بها عنها وضعفها-ما يحكى أن رجلا ضرب ابنا له، فقالت له أمه: لا تضربه، ليس هو ابنك؛ فرافعها إلى القاضى فقال: هذا ابنى عندى، وهذه أمه تذكر أنه ليس منى. فقالت المرأة: ليس الأمر على ما ذكره، وإنما أخذ يضرب ابنه فقلت له: لا تضربه ليس هو ابنك، ومدت فتحة النون جدا، فقال الرجل: والله ما كان فيه هذا الطويل الطويل، والأمر يذكر للأمر على تقاربهما، أو تفاوتهما، إذا كان ذلك للغرض موضحا، وإليه بطالبه مفضيا. وقد قال:
وعند سعيد غير أن لم أبح به … ذكرتك إنّ الأمر يذكر للأمر (١)
وإذا كان جميع ما أوردناه ونحوه مما استطلناه فحذفناه يدل أن الأصوات تابعة للمعانى، فمتى قويت قويت، ومتى ضعفت ضعفت. ويكفيك من ذلك قولهم: قطع وقطّع، وكسر وكسّر. زادوا فى الصوت لزيادة المعنى، واقتصدوا فيه لاقتصادهم فيه،
(١) أورده فى الخصائص ٢٦٦/ ٢، قال محققه: يظهر أن القائل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأن المعنى بسعيد فى البيت: ابن المسيب، وأورد له صاحب الأغانى بيتين فى هذا المذهب، وهما: سألت سعيد بن المسيب مفتى ال مدينة هل فى حب ظمياء من وزر فقال سعيد بن المسيب إنما كلام على ما تستطيع من الأمر وانظر: (الأغانى ١٤٧/ ٩)، وفى مجالس ثعلب ٥٠١ بعد إيراد البيت: أى ذكرتك عند سعيد، وكان سعيد والى المدينة وقد دعا به للقتل. يقول: إذا ذكرتك فى هذا الوقت فكيف سائر الأوقات.