٣-والإدعاء بأن سيادة النظام الإسلامى فيه إرغام لغير المسلمين علي ما يخالف دينهم إدعاء غير صحيح.
فالإسلام ذو شعب أربع: عقيدة , وعبادة, وأخلاق ووشريعة فأما العقيدة والعبادة فلا يفرضهما الإسلام علي أحد. وفي ذلك نزلت آيتان صريحتان حاسمتان من كتاب الله: إحداهما مكية والأخرى مدنية, في الأولي يقول تعالي مخاطبا رسوله الكريم صلي الله عليه وسلم (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس ٩٩
وفي الثانية يقول سبحانه وتعالي في أسلوب جازم (لا إكراه في الدين) البقرة: ٢٥٦
وجاء عن الصحابة في أهل الذمة:“ اتركوهم وما يدينون”. ومنذ عهد الخلفاء الراشدين, واليهود والنصارى يؤدون عباداتهم ويقيمون شعائرهم في حرية وأمان, كما هو المنصوص عليه في العهود التي كتبت في عهد أبى بكر وعمر, مثل عهد الصلح بين الفاروق وأهل إيلياء (القدس) .
ومن شدة حساسية الإسلام أنه لم يفرض الزكاة ولا الجهاد علي غير المسلمين لما لهما من صبغة دينية, باعتبارهما من عبادات الإسلام الكبرى – مع أن الزكاة ضريبة مالية والجهاد خدمة عسكرية – وكلفهم مقابل ذلك ضريبة أخرى علي الرؤوس, أعفي منها النساء والأطفال والفقراء والعاجزين, وهى ما يسمى بالجزية.
ولئن كان بعض الناس يأنف من إطلاق هذا الاسم فليسموه ما يشاءون فإن نصارى بنى تغلب من العرب طلبوا من عمر أن يدفعوا مثل المسلمين صدقة مضاعفة ولا يدفعوا هذه الجزية, وقبل منهم عمر, وعقد معهم صلحا علي ذلك وقال في ذلك: هؤلاء القوم حمقى رضوا بالمعنى, وأبوا الاسم!
أما شعبة الشريعة بالمعنى الخاص: معنى القانون الذين ينظم علائق الناس بعضهم ببعض: علاقة الفرد بأمته وعلاقته بالمجتمع وعلاقته بالدولة وعلاقة الدولة بالرعية, وبالدول الأخرى.
فأما العلاقات الأسرية فيما يتعلق بالزواج والطلاق ونحو ذلك مخيرون بين الاحتكام إلي دينهم والاحتكام إلي شرعنا, ولا يجبرون علي شرع الإسلام.
فمن اختار منهم نظام الإسلام في المواريث مثلا – كما في بعض البلاد العربية – فله ذلك, ومن لم يرد فهو وما يختار. وأما ما عدا ذلك من التشريعات المدنية والتجارية والإدارية ونحوها فشأنهم في ذلك كشأنهم في آية تشريعات أخرى تقتبس من الغرب أو الشرق وترتضيها الأغلبية.
وبعض المذاهب الإسلامي لا تلزم أهل الذمة أو غير المسلمين بالتشريع الجنائى مثل إقامة الحدود والعقوبات الشرعية كقطع يد السارق وجلد الزانى أو القاذف, ونحو ذلك. وإنما فيها التعزيز.
وتستطيع الدولة الإسلامية الأخذ بهذا المذهب إذا وجدت فيه التحقيق مصلحة أو درء مفسدة كم فعلت ذلك جمهورية السودان الإسلامية بالنسبة للمناطق التي تسكنها أغلبية غير إسلامية.
ومن هنا كان لأهل الذمة محاكمهم الخاصة يحتكمون إليها إن شاءوا وإلا لجأوا إلي القضاء الإسلامى كما سجل ذلك التاريخ.
وبهذا نرى أن الإسلام لم يجبرهم علي ترك أمر يرونه في دينهم واجبا ولا علي فعل يرونه عندهم حراما, ولا علي اعتناق أمر دينى لا يرون اعتقاده بمحض اختيارهم.
كل ما في الأمر أن هناك أشياء يحرمها الإسلام مثل الخمر والخنزير وهم يرونها حلالا, والأمر الحلال للإنسان سعة في تركه فللمسيحي أن يدع شرب الخمر ولا حرج عليه في دينه بل لا أظن دينا يشجع شرب الخمور, ويبارك حياة السكر والعربدة. وكل ما في كتبهم: أن قليلا من الخمر يصلح المعدة ولهذا اختلف المسيحيون أنفسهم في موقفهم من الخمر والسكر.
وكذلك بوسع المسيحى أن يعيش عمره كله ولا يأكل لحم الخنزير , فأكله ليس شعيرة في الدين, ولا سنة من سنن النبيين بل هو محرم في اليهودية قبل الإسلام ومع هذا نرى جمهرة من فقهاء الإسلام أباحوا للأهل الذمة من النصارى أن ياكلوا لحم الخنزير ويشربوا الخمر, ويتأجروا فيهما فيما بينهم, وفي القرى التي تخصهم علي أن يظهروا ذلك في البيئات الإسلامية, ولا يتحدوا مشاعر المسلمين. وهذه قمة في التسامح لا مثيل لها.
سؤال. د. جورج إسحاق
ومنذ عدة سنوات دعيت من قبل نقابة الأطباء في مصر لندوة حول (المشروع الحضارى) في دار الحكمة) بالقاهرة, وكان المفروض أن يشاركنى أحد الأساتذة المعروفين (هو الأستاذ إسماعيل صبري عبد الله وزري التخطيط في عهد عبد الناصر ومن ممثلي الفكر اليسارى في مصر) ولكنه اعتذر فانفردت بإلقاء الموضوع وبيان مقومات مشروعنا الحضارى الإسلامى والذي يعمل علي إصلاح الفرد وإسعاد الأسرة وترقية المجتمع وبناء الأمى الفاضلة وإقامة الدولة العادلة وإنشاء عالم متعارف وعلاقات إنسانية سوية.
وبعد ذلك كانت أسئلة ونقاشات وتعليقات وكان من أبرز هذه الأسئلة: سؤال من الأخ الدكتور جورج إسحاق الذي سأل بصراحة: أين موقعنا, يادكتور قرضاوي – نحن الأقباط – في هذا المشروع؟ هل نظل أهل ذمة؟ أو نحن مواطنون؟ هل ستطالبنا بدفع الجزية أو ندفع ما يدفع المسلمون؟ هل نحرم من وظائف الوطن أو يأخذها من يستحقها منا بأهليته؟... إلخ هذا النوع من الأسئلة.
وقلت للدكتور إسحاق: إن المشروع الحضارى هو لأهل دار الإسلام جميعا المسلمين منهم وغير المسلمين وفقهاء المسلمين متفقون علي أن أهل الذمة من (أهل الدار) أى دار الإسلام وإن لم يكونوا من (أهل الملة) ومعنى أنهم من أهل الدار أنهم مواطنون, ينتمون إلي الوطن الإسلامى فهم مسلمون بحكم انتمائهم إلي الدار أو الثقافة والحضارة. وهذا ما عبر عنه الزعيم المصرى القبطى المعروف مكرم عبيد حين قال: أنا نصرانى دينا , مسلم وطنا! وهذا ما قلته للدكتور لويس عوض حين زارنا في الدوحة مشاركا في إحدى الندوات, وطلب منى أن أعقب علي الندوة, فقلت له: أنا مسلم بمقتضى العقيدة والملة وأنت مسلم بمقضى الثقافة والحضارة.
وكلمة (الذمة) كثيرا ما تفهم خطأ, ويظن بعض الناس أنها كلمة ذم أو انتقاض مع أن مهناها والضمان أى أنهم في عهد الله ورسوله وجماعة المسلمين وفي ضمانهم لا يجوز أن ينتقض عهدهم أو تحفز ذمتهم من أحد.
وإذا كانت كلمة (أهل الذمة) تؤذى الأقباط وأمثالهم , فإن الله لم يتعبدنا بها, وقد حذف الخليفة الثانى عمر بن الخطاب ما هو أهم فيها (كما ذكرنا من قبل) وهو كلمة (الجزية) المذكورة في القرآن, حين طلب بنو تغلب ذلك وقالوا: يا أمير المؤمنين, نحن عرب ونأنف من كلمة (جزية) ونريد أن تأخذ منا ما تأخذ باسم الزكاة أو الصدقة, كما تأخذ من المسلمين فقبل منهم ذلك ونظر إلي أصحابه وقال " هؤلاء القوم حمقى رضوا بالمعنى, وأبوا الاسم.
وفي عصرنا يتأذى إخواننا من المسيحيين وغيرهم من هذه التسمية فلا مبرر للإصرار علي بقائها والعبرة للمقاصد والمعانى لا للألفاظ والمبانى.
ولقد ذهبت من قديم في كتابى (فقه الزكاة) إلي أن ولي الأمر المسلم يجوز له أن يأخذ من غير المسلمين في الدولة الإسلامية ضريبة تساوى فريضة الزكاة ولنسمها (ضريبة التكافل) توحيداً للميزانية والإجراءات بين أبناء الوطن الواحد والدار الواحدة وأيدت ذلك بأدلة شرعية من داخل الفقه الإسلامى وهذا ما أخذت به جمهورية السودان منذ عهد نميرى.