وقد ذكرت في (فقه الزكاة) أن فقهاء المسلمين عددا أجازوا دفع الزكاة لغير المسلمين وقد نقل ذلك عن عمر رضى الله عنه.
ومما يذكره التاريخ أن عناصر من أهل الكتاب أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية أيام ازدهارها, لا تزال أسماء بعضهم معروفة مشهورة.
ولقد وصل بعضهم إلي منصب الوزارة وهو ما قرره القاضى المارودى وغيره من فقهاء السياسة الشرعية. والعامل المهم هنا هو: وجود الثقة المتبادلة بين الفريقين وألا يتطلع غير المسلمين إلي المناصب التي لها طبيعة دينية كما لا يحوز للمسلمين أن يتدخلوا في الشؤون الدينية لغير المسلمين أو يضعفوا عليهم فيها بغير حق.
والأصل العام في التعامل هو هذه القاعدة التي يتناقلها المسلمون خاصتهم وعامتهم لهم مالنا, وعليهم ما علينا.
وهذا فيما عدا ما اقتضاه الاختلاف أو التميز الدينى بطبيعة الحال لكل من الطرفين فهم غير مطالبين بالصلاة ولا بالصيام ولا بزكاة الفطر ولا بالكفارات ولا بالحج وغيرها من فرائض الإسلام.
ومن المهم جدا أن يكون من حق الأكثرية المسلمة أن تحتكم إلي شريعة ربها وتطبقها في شؤونها علي ألا تحيف علي حقوق الأقلية ويجب علي الأقلية ألا تضيق صدرا بذلك وهو ما كان عليه الأقباط طوال العصور الماضية والحديثة قبل كيد الاستعمار ومكره, ولم نرهم يتبرمون بالنص علي أن دين الدولة الإسلام بل رأيت كثيرا من عقلاء المسيحيين في مصر وفي غيرها طالبوا مخلصين بوجوب تطبيق الشريعة وأحكامها وحدودها ورأوا في ذلك العلاج الناجع للجرائم والرذائل في مجتمعاتنا.
وكما أن الأقلية رضيت بالقوانين المستوردة من الخارج ولم تجد في ذلك حرجا فأولي بها أن ترضى بالشريعة الإسلام فهى قطعا أقرب إلي المثل العليا التي جاءت بها المسيحية من القوانين الأجنبية , ثم هى قوانين (الدار) التي تعيش فيها الأقلية وتتعامل معها , فالمسلم يتقبل الشريعة علي أنها دين وانقياد لله, وغير المسلم يتقبلها علي أنها قانون ونظام شأنه شأن سائر الأنظمة والقوانين.
قلت هذا الكلام أو نحوه في الإجابة عن سؤال د. جورج إسحاق , صفق الحاضرون إعجاباً وقبولاً وبعد انتهاء الندوة , جاء الدكتور إسحاق يشد علي يدى, ويقول لي: ليتك يا دكتور قرضاوى تأتى إلي الكنيسة لتقول هذا للأقباط في عقر دارهم فإن عندهم هواجس مخاوف كثيرة من تطبيق شريعة الإسلام وربما ساهم في هذا الخوف بعض المتشددين من المسلمين.
وقلت للدكتور: أنا لا أمتنع عن هذا إذا دعيت والواجب علينا البيان والبلاغ حتى لا تلتبس الأمور وتفهم الحقائق علي غير وجوهها ويستغل أعداء الأمة ليوقدوا نار الفتنة وبيضربوا أبناء الأمة الواحدة بعضهم ببعض وهم المستفيدون أولا وآخرا.
الآراء الفقهية المتشددة مرهونة بظروفها
أما الاراء المتشددة والمضيفة والتي تتمسك بحرفية ما جاء في بعض الكتب التي كتبت في زمن غير زمننا, والمجتمع غير مجتمعنا, وفي ظروف غير ظروفنا فهى لا تلزمنا, وقد قرر المحققون من علمائنا: أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال, وقد تغير كل شئ في حياتنا كما وكيفا عما كان عليه أيام هؤلاء الفقهاء.
وأما حديث “ لا تبدأوهم بالسلام واضطرارهم إلي أضيق الطريق” فهذا مقيد بأيام الصراع والحروب لا بأيام الاستقرار والسلام, وقد كان بعض الصحابة يقرأ السلام علي كل من لقيه من مسلم وغير مسلم, عملا بالأمر بإفشاء السلام.
وهل من المعقول أن يبيح الإسلام للمسلم الزواج بالمسيحية ولا يبيح له أن يسلم عليها؟ وهل يمنع الولد أن يسلم علي أمه أو علي خاله أو خالته أو جده أو جدته؟ وقد أمره الله بصلة الرحم وإيتاء ذى القربى؟
وحسبنا هذا النص القرآنى العام المحكم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة:٨ فالقسط هو العدل والبر هو الإحسان وهو شئ فوق العدل والعدل: أن تعطى الحق والبر أن تعطى فوق الحق, والعدل: أن تأخذ مالك من حق , والبر أن تتنازل عن بعض حقك أو عن حقك كله وهذا ما رغب فيه القرآن التعامل مع المسالمين من غير المسلمين.
٤- الإخوان والعنف
ومن التهم التي ألصقت بالإخوان – ولا زالت – تهمة استخدام العنف أو الإرهاب وحين تذكر جماعات العنف المسلح في عصرنا , يسارع ذوو الغرض والهوى لإدخال جماعة الإخوان فيهم.
وهذا لعمرى من الاعتساف والتحريف, والظلم المبين الذي لا يخفي علي دارس منصف فالإخوان – من الناحية النظرية – لم يجيزوا استخدام القوة المادية إلا في مجالات معينة, وبشروط واضحة, بينها الإمام البنا في رسائله بوضوح كما في رسالة المؤتمر الخامس وغيرها. ومن هذه المجالات: مقاومة الإحتلال الإنجليزى لمصر والإحتلال الصهيونى في فلسطين.
وقد اشترك الإخوان بالفعل في قتال الصهاينة سنة ١٩٤٨ م في حرب فلسطين وكان لكتائبهم دور مشهور, وبطولات قارعة رائعة, وشهداء أطهار أبرار شهد لهم بها رجال كبار من قادة الجيش المصري وإن كان جزاؤهم بعد ذلك أنهم أخذوا من الميدان إلي المعتقلات.
كما كان لهم دور معروف غير منكور في معارك القناة, حيث شارك شبابهم في الجامعات والإخوان المسلمون والأزهر وغيرها , وكان لهم شهداء معروفون. وكان لاستخدام العنف في غير الميدان دور محدود قصد به ضرب المصالح اليهودية والبريطانية ردا علي المجازر الهائلة التي وقعت في فلسطين علي أيدى العصابات المسلحة التي استباحت كل المحرمات.
ولو جمع كل ما فعل الإخوان لضرب تلك المصالح لم يبلغ عشر معشار ما كانت تقوم به الجماعات المسلحة اليوم في مصر أو في الجزائر في يوم واحد.
فما عرف عن الإخوان أنهم قتلوا سائحا أو اعتدوا علي قبطى, أو قتلوا امرأة أو طفلا صغيرا, أو شيخا كبيرت كما شاهدنا ما يفعله هؤلاء الوحوش الذين يذبحون الناس بأبشع الآلات واشنع صور القتل ولا يتورعون عن قتل النساء والولدان والزراع والرهبان, ممن لا ناقة لهم في حرب ولا جمل, لا نعجة ولا حمل!. فمن غير المقبول والمعقول: أن يلحق الإخوان بهؤلاء المفترسين. وهناك حوداث معروفة من أعمال العنف منسوبة إلي الإخوان لها ظروفها وملابساتها: ومن العدل أن توضح في إطارها الزمنى فقد كان الاغتيال السياسى معروفا عند الوطنيين منذ اغتيال بطرس باشا غالي, وأمين عثمان وغيرهما وكان الرئيس السادات ممن أتهم في مقتل أمين عثمان.
فمن ذلك: حادثة قتل القاضى الخازندار في ظروف معروفة زينت لبعض الشباب المتحمس أن يقتلوا هذا القاضى, ولم يكن ذلك بأمر الأستاذ البنا ولا بإذنه أو علمه وقد استنكر وقوع هذا احادث ومن الإنصاف أن يوضع الحدث في ظرفه الزمنى, مقرونا بالباعث عليه, حتى لا يأخذ من حجمه , ولم يتكرر هذا من الإخوان قط, ولم يفكروا في أخذ ثأرهم حتى من القضاة العسكريين الذين حكموا عليهم أحكاما لا يشك إنسان موضوعى أنها قاسية ظالمة.
وبعد ذلك كان قتل النقراشي رئيس الوزراء والحاكم العسكرى الذي يحمل تبعة (حلالإخوان) واقتيادهم إلي المعتقلات بالآلاف وتعرضهم للتعذيب والفصل والتشريد والتجويع, حتى الذين كانوا يقاتلون الصهاينة في فلسطين نقلوا من الميدان إلي الاعتقالو فقام شاب من الإخوان بمساعدة بعض زملائه في (النظام الخاص) بقتله وهو ما حاول الأستاذ حسن البنا الحيلولة دون وقوعه ولقى بعض الرجال المسئولين وحذرهم من أن يتهور بعض شباب الإخوان ويحدث ما لا تحمد عقباه فقالوا له بعبارة صريحة ماذا يفعلون؟ سيقتلون رئيس الوزراء ليكن إن ذهب عير (أى حمار) فعير في الرباط!.