وليس (حسن البنا) هو الذي أسس تيار التزمت في الفكر الإسلامي إذ الحقيقة أن هذا التيار قد تأسس ضده ونشأ تمردا علي قيادته, وكان وراء أول انشقاق عن جماعته أسفر عام ١٩٣٧ عن تشكيل (جماعة شباب محمد) التي اتهمته بالقعود عن الجهاد, وبالإكتفاء بمساندة ثوار فلسطين الذين يجاهدون ضد الصهيونية بالكلمات, وليس بالقتال الفعلي وبمهادنة القوى التي تماطل في تطبيق الشريعة وبالتواطؤ مع الذين لا يحكمون بما أنزل الله وطالبته بالتخلي عن قيادة الدعوة, أو اتخاذ موقف جهادى واضح, يجابه الحكومة بأنها كافرة ويقاوم المنكر في المجتمع بالعنف.. وكانت مصر الفتاة) في سياق التنافس مع (الإخوان هى التي ارتادت علي الصعيد الحركي طريق مقاومة المنكر باليد حين قام أنصارها عام ١٩٣٩ بالهجوم علي الحانات لتحطيمها والاعتداء علي روادها وفي المرتين قاوم (البنا) هذا الإتجاه وأعلن أنه ضد الخروج عن القوانين مهما كان رأيه في رأيه في درجة اسلاميتها.
والذين يضعون فأس المسئولية عن العنف الدينى تفشى منذ ذلك الحين في أنحاء مختلفة من المنطقة العربية في رقبة (حسن البنا) يتجاهلون أن المسئول الأول في ذلك هم الذين شجعوا بل تآمروا علي إقامة دولة دينية في المنطقى عن طريق العنف, والذين سعوا إلي ذلك عن طريق هجرة استيطانية, تحولت إلي أحزاب سياسية صهيونية علنية, لكل منها جناح عسكرى سرى تتعاون جميعها في ممارسة العنف ضد أصحاب البلاد الأصليين, من المسلمين والمسيحيين لكى تطردهم منها وتحل محلهم.
وكان ذلك هو التحدى الذي استجاب له (البنا) فاتبع نفس الطريقة ولكن لهدف مضاد وشرع – بمشورة المجاهدين ليكون الفلسطينيين – في تشكيل الجهاز الخاص للإخوان المسلمين, ليكون بمثابة جناح عسكرى للجماعة, يجند طاقات الشبان الأكثر حماسا واستعدادا للتضحية من خلال دراسات فقهية حول نظرية الجهاد في الفقه الإسلامى, وبرامج للتدريب العسكرى للأسلحة والمتفجرات لكى يكونوا مؤهلين لمواجهة الغزو الصهيونى والاحتلال الأجنبى لبلاد المسلمين وبصرف النظر عن مدى صواب ذلك أو عدم صوابه فإن المسؤول عن نشؤ العنف الدينى في المنطقة ليس صاحب (رد الفعل) ولكنه صاحب الفعل ٩ الذي يملأ الآن في بلاد الغرب صراخا ضد هذا النوع من العنف.
والشواهد التاريخية تؤكد أن معظم عمليات العنف التي قام بها الجهاز الخاص أو تلك التي قام بها قسم الوحدات الذي يضم ضباط الجيش وجنوده وضباط الشرطة من الإخوان ظلت في إطار الهدف الذي أنشىء من أجله الجهازان وفي السياق نفسه لعمليات مشابهة قام بها أعضاء من فرق سياسية أخرى سواء بصفتهم الحزبية أو الشخصية, إذ توجهت في الأساس تجاه جنود ومؤسسات جيش الإحتلال ثم بعد ذلك وحين نعقد الوضع بين الفلسطينيين والصهاينة في أعقاب صدور قرار التقسيم. توجهت ضد الممتلكات اليهودية ومع أن تحفظا قد يرد علي عمليات من نوع نسف حارة اليهود, أو محلات مثل (شوكوريل , (اوركو) فإن الفظائع التي كان يرتكبها الصهاينة ضد الفلسطينيين تجعل وقوعها أمرا واردا وفضلا عن ذلك فقد تطوع عدد كبير من أعضاء القسمين, ضمن أفواج المتطوعين العرب. التي دخلت أرض فلسطين قبل أن تدخلها الجيوش العربية رسميا في ١٥ مايو ١٩٤٨.
لكن الجهاز الخاص الذي كان قسما ذا استقلال شبه ذاتى, له قيادته التنفيذية وتشكيلاته الخاصة المستقلة ولا يربطه عمليا بالجماعة سوى مجلس من المستشارين ورئاسة (حسن البنا) ما لبث بعد أن اتسعت عضويته وتعاظم نفوذه, أن بدأ ينحو نحو مزيد من الاستقلال ونشأ لدى بعض قيادته وخاصة (عبدالرحمن السندي) نزوع للإنفراد باتخاذ القرار, تذرعا بأن ضرورات التنفيذ تبيح محظور عدم استشاره المرشد العام.
ومن الإنصاف للرجل أن نقول بأن عمليات العنف التي قام بها الجهاز الخاص, ضد مصريين في حياته لا تتجاوز ثلاثة’ هى قتل القاضى (أحمد الخازندار) بسبب أحكام قاسية أصدرها بحق بعض الذين قاموا بأعمال عنف ضد قوات الإحتلال, من أعضاء الجهاز ومن غيرهم واغتيال رئيس الحكومة محمود فهمي النقراشي, ردا علي قراره بحل جماعة الإخوان ومصادرة ممتلكاتها واعتقال قاداتها, وأخيرا محاولة نسف محكمة الاستئناف لإحراق الأوراق السرية للجهاز الخاص, التي كانت قد ضبطت في سيارة جيب لتدمير أدلة الاتهام ضد قياداته وتأمين من لم يقع في أيدى الشرطة من أعضائه.
ولم يكن (البنا) طرفا في هذه العمليات الثلاثة فقد نفذت أولاها دون علمه, وغضب غضبا شديدا لوقوعها ونفذت الثانيى والثالثة بعد حل الجماعة وتفكك روابطها التنظيمية بسبب اعتقال قادتها ومطاردة الآخرين, ووضعه هو نفسه تحت رقابة بوليسية صارمة حالت بين الذين خططوا لهما وبين عرض الأمر عليه, وحالت بينه وبين الاعتراض علي التنفيذ بل إنه اعتبر أن الرصاصات التي وجهت إلي النقراشي قد أصابته هو نفسه, ونظر إلي محاولة نسف محكمة الاستئناف باعتبارها تحديا له إذ كان يجرى مباحثات سياسية لكى يلغى قرار الحل أبدى خلالها مرونة سياسية وصلت إلي حد أبدى فيه استعداده لأن يقصر نشاطها علي الجانب الدينى وحده ويتوقف عن التدخل في الشؤون السياسية.
ولم يكن استقلال الجهاز السرى للإخوان برؤاه وعملياته بعيدا عن القوانين العامة لهذا النوع من الأجهزة , بل إنه يكاد يكون تكرار لتجربة الجهاز السرى لثورة ١٩١٩ الذي نشأ للقيام بعمليات فأعلن الاستقلال ثم الدستور وتولي زعميها سعد زغلول رئاسة الوزارة فقد قامت مجموعة منه باغتيال القائد البريطانى للجيش المصرى وحاكم السودان العام, فكانت النتيجة استقالة وزارة سعد وسحب الجيش المصرى من السودان وتعطيل الدستور.
والحقيقة أن انشغال (البنا) بالحشد والتحريك والتنظيم علي حساب ما كان محتما ألا يتأخر في القيام به, وهو صياغة فقه إسلامى يستجيب لحاجات العصر وخاصة ما يتعلق بالمسألة السياسية, لم يؤد فقط إلي المخاوف التي أشاعها هذا الحشد في نفوس بقية الفرقاء علي الساحة الاجتماعية والسياسية المحلية والدولية ولم يسفر عن تعدد الرؤى داخل جماعته, بل وانعكس كذلك داخل الجهاز الخاص الذي قام بهذه العمليات الثلاث, استنادا إلي اجتهاد خاص ببعض أفراده لم ينظر إلي الإخوان المسلمين كما كان البنا ينظر إليها باعتبارها جماعة المسلمين التي يتوجب حمل السلاح في وجه من يختلف معها.
ومن سوء الحظ التاريخى, أن الذين توجهت إليهم رصاصات الجهاز الخاص للإخوان استنادا إلي هذا الاجتهاد الخاطئ لم يميزوا بين الرجل وبين الذين أساءوا فهم أفكاره ووضعوها في سلة واحدة فاغتالوه وفي ظنهم أنهم يقضون علي العنف فإذا بهم يشعلونه في الأرض إذ المؤكد أنه لولا غياب حسن البنا لتغير وجه النصف الثانى من القرن العشرين عما صار إليه ولاختلف استقبالنا للألفية الثالثة هما نحن فيه! ". انتهى مقال الكاتب صلاح عيسى بنصه لم أحذف منه حرفا.
وقد حلل فيه الأحداث تحليلا علميا سليما دل علي علمه بالتاريخ ووعيه به ومعرفته بما وراء الحوادث من بواعث , وما يؤثر فيها من تيارات وأوضاع لقد نظر إلي الأحداث في حجمها الحقيقى لم يحاول أن يكبر الصغير أو يهون الكبير, وربطها بمقدماتها ولواحقها ,ووضعها في سياقها التاريخى المحلي والعالمى فجاءت شهادته – والحق يقال – غاية في تحرى الحقيقة والدقة العلمية والنظرة المستوعبة والإنصاف في زمن فيه المنصفون!
٥- الإخوان وإقامة الدولة الإسلامية
بعض المعترضين علي الإخوان يواجههم بسؤال محرج لهم, يقول: لقد مر عليكم سبعون عاما, وأنتم تنادون بإقامة دولة إسلامية تحقق حكم الله في الأرض, وتمكن لدينه في حياة الناس تبنى المجتمع المسلم المنشود الذي يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دولة ترجع إلي الكتاب وتستخدم الحديد والميزان ليقوم الناس بالقسط ومع هذا لم تقيموا هذه الدولة التي سعيتم إليها وناديتم بها؟
ألا يدل هذا علي أن طريقتكم خاطئة أو أن أهدافكم مستحيلة التحقيق؟
والجواب: أن هذا السؤال فيها كثير من الخلل والخطأ من عدة أوجه:
الدولة ليست هى الهدف الأوحد:
الوجه الأول: أن إقامة الدولة المسلمة هدف أصيل, وأمل منشود ولكنه ليس الهدف الأوحد, بحيث تقول إن الحركة كان لها هدف سعت إليه ولم تحققه.
إذ الواقع أن للحركة جملة أهداف دعت إليها وحرصت عليها, وجاهدت لتحقيقها فحققت بعضها ولم تحقق بعضا آخر.
فقد أعلن مؤسس الدعوة أنه يسعى لإيجاد: الفرد المسلم, والبيت المسلم والشعب المسلم والحكومة المسلمة والأمة المسلمة.
وقد نقلنا من الإمام البنا في رسالته إلي الشباب:
١- نريد أولا: الفرد المسلم في تفكيره وعقيدته, وفي خلقه وعاطفته وفي عمله وتصرفه, فهذا هو تكويننا الفردى.