ولو قرأ الأستاذ هيكل رسالتين صغيرتين من رسائل البنا إحداهما كتبت سنة ١٩٣٦ وهى رسالة (المؤتمر الخامس) الشهيرة والأخرى عنوانها “ دعوتنا في طور جديد” كتبت سنة ١٩٤٢, لوجد فيهما رؤية مركزة لمشروع حضارى متميز. في منطلقاته, متميز في أهدافه متميز في رسائله.
في هذه الرسالة الثانية نظرة عميقة تتحدث عن العقلية الغيبية الخرافية ,والعقلية العلمية الحسية الوضعية, وعن خصائص العقلية الإسلامية التي يريدها ويكونها الإسلام. زهى عقلية متوزانة تؤمن بالغيب ولكن لا إلي حد التصديق بالخرافة وتؤمن بسلطان العقل والحسن ولكن إلي حد إنكار الوحى.
وترسم طريق النهضة للأمة المسلمة بدءا بمصر التي انتهت إليها زعامة الشعوب الإسلامية والتي ردت عن حمى الإسلام كيد المعتدين من تتار الشرق وصليبى الغرب والتي تحيا حياة تتذبذب فيها وتتأرجح بين الإسلام الأصيل والتغريب الدخيل والذي كان من ثمراته وجود تعليميين: دينى ومدنى وقضاءين: شرعى وأهلي , وحياتين: إسلامية وأفرنجية.
ولا مناص لمصر من التحرر من هذه الثنائية الغربية ومن تأسيس حياتنا كلها علي قواعد الإسلام ونعنى به: الإسلام المؤسس علي الاجتهاد والتجديد هذا ما نادى به حسن البنا بوضوح وجلاء.
ربما قيل: إن اعتماد الإسلام مصدرا, ومعيارا لا يحل المشكلة, لأن كل فئة تفسر الإسلام حسب منظروها فلا تعرف بالضبط موقف الإسلام من القضايا الكبرى والمشكلات المعقدة التي تتطلب حلا وعلاجا, يقدم للناس في صورة مشروع ولم يفعل هذا الإمام البنا, لأنه كان مشغولا بجمع الناس علي الكليات والمبادئ العامة ولا يعنى بعلاج الأمور التفصيلية خشية أن يختلف الناس عليها في وقت هم فيه أحوج إلي التجمع والتوحد.
وهذا صحيح – إلي حد ما – في وقت من الأوقات, ولكن الشيخ البنا في أواخر حياته بدأ يفصل مشروعه للناس في مقالات نشرها في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية ,وجمعت بعد ذلك في كتاب تحت عنوان (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامى) .
وفي هذا المبحث قد تحدث الأستاذ البنا عن القضية الوطنية وقضية الوحدة والقضية الدستورية والقضية الاقتصادية وقدم حلولا لكل منها في ضوء الإسلام وعرضها في الجريدة اليومية لتناقش.
ولنأخذ هنا مثلا: علاجه للقضية الوطنية قضية الصراع مع الاحتلال الانجليزى وتحددت في محورين: الجىء ووحدة وادى النيل.
وقدم الأستاذ حله لقضية الجلاء في ضوء رؤيته الإسلامية: المفاوضة فإن لم تفلح فالمقاطعة , ثم (النبذ علي السواء) بإعلانهم بالخصومة الصريحة وإلغاء ما بيننا وبينهم من معاهدات , واعتبار الأمة في حالة حرب, وتنظيم حياتها علي هذا الاعتبار اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
وقدم الأستاذ حله للمشكلة السياسية الداخلية, أو مشكلة (نظام الحكم) وتتلخص في قبوله: (النظام الدستوري) وقبول الدستور المصري بصفة عامة مع التنبيه علي وجوب إزالة الغموض في بعض مواده وعلي ضرورة تعديل (القانون) ليتفق مع الدستور الذي لم يره يناقض الإسلام مناقضة صريحة.
ويقول المرشد: ليس في قواعد هذا النظام النيابى أو الدستورى ما يتنافي مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم وهو بهذا الاعتبار ليس بعيدا عن النظام الإسلامى ولا غريبا عنه وبهذا يمكن أن نقول في اطمئنان إن القواعد الأساسية التي قام عليها الدستور المصرى لا تتنافي مع قواعد الإسلام.
بل إن واضعى الدستور المصرى قد توخوا فيه ألا يصطدم أى نص من نصوصه بالقواعد الإسلامية فهى إما متمشية معه بصراحة أو قابلة للتفسير بما يتفق معه
الإصلاح السياسى لدى الإخوان:
وفي الإصلاح الداخلي حسبنا أن نذكر عنا فقرات مما ذكره ريتشارد. ب. ميتشل في كتابه عن (الإخوان) حوا آرائهم في الإصلاح البرلمانى والسياسى والإدارى فيقول:
تضمنت اقتراحات إصلاح البرلمان والأحزاب ما يلي:
١- وضع قائمة من “ الصفات” التي يجب أن تتوافر في المرشحين سواء أكانوا ممثلين لهيئات أم لم يكونوا.
٢- وضع حدود للدعاية الانتخابية.
٣- إصلاح الجداول الانتخابية وطرق التصويت لتكون في منأى عن تلاعب ذوى المصالح الشخصية وعن التصويت الإجبارى.
٤- فرض عقوبات رادعة علي التزوير والرشوة في الانتخابات.
كذلك اقترح البنا تطبيق نظام الانتخابات“ بالقائمة” مفضلا إياه علي الانتخاب المباشر حيث ينتمى الفرد إلي حزب سياسة, ,:أن يرى أن هذه الطريقة “ تحرر النائب من ضغط الذين انتخبوه” وتؤمن خدمة المصلحة العامة دون المصالح الشخصية"؟
أما ميدان الإصلاح الحكومى الآخر, فهو الجهاز الإدارى عموما والتوظيف الحكومة بصفة خاصة. فالوجه الأول للإصلاح هو تطبيق الإسلام من ناحيته المعنوية والوجه الثانى هو معالجة مسائل العمل والإجراءات وقد تحدث البنا طويلا عن الوجه الأول فحبذ:
(١) نشر الروح الإسلامية في جميع المصالح الحكومية.
(٢) مراقبة السلوك الشخصى للموظف حتى لا يوجد ثلمة في سلوكه تميز بينكم وظف حكومى وكإنسان.
(٣) إعادة تنظيم أوقات العمل لتسهيل أدائه وحتى يمتنع العامل من السهر ليلا.
(٤) مراقبة جميع الأعمال الحكومية بحيث تتفق مع روح التعاليم الدينية.
(٥) استخدام عدد أكبر من خريجى الأزهر في الوظائف العسكرية والمدنية.
كانت هذه الإصلاحات السمة الغالبة في موقف البنا من مشكلة الإصلاح في عمومها كما تعرض لما يمس أتباعه مباشرة من المشاكل الدنيوية اليومية للوظيفة العامة, وتضمنت آراؤه في الإصلاح بالنسبة لهذه المشاكل الإجراءات التالية:
(١) اختيار الموظفين الحكوميين علي أساس الكفاءة دون القرابة
(٢) استقرار ظروف العمل وتبسيط اجراءته عن طريق تحديد المسؤولية وإلغاء المركزية.
(٣) تحسين أحوال صغار موظفي الدولة برفع رواتبهم وعلاوتهم وذلك لسد الهوة بينهم وبين كبار الموظفين, وبإيجاد تأمين قانونى ومالي مضمون لهم بحماية المرؤوسين من عسف ونزعات الرؤساء (٤) تقليل عدد الوظائف الحكومية وتوزيع العمل علي من يبقى توزيعا أعدل وأقوم.
(٥) إلغاء ما هو جار من “ استثناءات” من القوانين يتمتع بها المقربون والأصدقاء والأقرباء.
قامت اللجنة الفرعية للوظيفة العامة المنبثقة من قسم المهن بالجماعة بوضع الكثير من البرامج لإصلاح الوظيفة الحكومية – كما قررت اللجان الخاصة التي شكلت في المدن الكبرى (والتي كان مزمعا تشكيلها أيضا في القرى) بع الحرب العالمية الثانية – قررت تقديم مساعدة فعلية اتخذت شكل دفع مصروفات التعليم الجامعى لأولاد الموظفين الذين يقل راتبهم عن ثلاثين جنيها في الشهر وذلك “ لمحاربة غلاء المعيشة” وكانت هذه اللجان الخاصة تعمل في مجالاتها علاوة علي ما كانت تقوم به الجماعة من دعوة إلي الإصلاح – خصوصا فيما يتعلق بالأجور والضمان الاجتماعى وهى دعوة كثيرا ما امتلأت بها صحافة الجماعة.
وإذ كان التحرر السياسى من الاستعمار وثيق الصلة بالإصلاح السياسى فقد كان هذا الإصلاح يتضمن دائما أفكارا عن الإصلاح العسكرى وقد نادى البنا بتعميم هذا الوضع علي الصعيد الوطنى حينما دعا إلي “ تقوية الجيش وإشعال الحماس فيه علي أساس الجهاد الإسلامى”.
كان الدفاع “ عن الوطن” والدفاع “ عن حقائق الإسلام” هما الفكرتين اللتين رددتهما المقالات العديدة في صحافة الجماعة كلما حثت علي إصلاح عسكرى وهما فكرتان اكتسبتا أهمية أعظم بعد ثورة عام ١٩٥٢ واقترحت الجماعة في ذلك الوقت: