ولكن الإخوان يفرقون بين هؤلاء وبين مواطنيهم الذين يعيشون في دار الإسلام وهم من أهل البلاد الأصليين وقد دخل الإسلام عليهم وهم فيها وأعطاهم الذمة والأمان أن يعيشوا مع المسلمين وفي ظل حكمهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم إلا ما اقتضاه التميز الدينى.
فهؤلاء لم ينه الله تعالي عن برهم والإقساط إليهم كما في قوله تعالي (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة:٨)
فهؤلاء لهم حق البر والقسط , والقسط هو العدل , والبر فوق العدل وهو الإحسان.
القسط: أن تعطيهم حقهم والبر: أن تزيد علي ما هو حق لهم!
القسط: أن يأخذ منهم الحق الذي عليهم, والبر: أن تتنازل عن بع حقك عليهم.
فهؤلاء- إذا كانوا من أهل وطنك – لك أن تقول: هم إخواننا أى إخواننا في الوطن كما أن المسلمين – حيثما كانوا – هم إخواننا في الدين. (الفقهاء يقولون عن أهل الذمة: هم من أهل الدار أى دار الإسلام) فالأخوة ليست دينية فقط كالتي بين أهل الإيمان بعضهم وبعض وهى التي جاء فيها قول الله تعالي (إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات: ١٠) بل هناك أخوة قومية وأخوة وطنية وأخوة بشرية.
والقرآن الكريم يحدثنا في قصص الرسل مع أقوامهم الذين كذبوهم وكفروا بهم فيقول: (كذبت قوم نوح المرسلين. إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون) (الشعراء:١٠٥ ,١٠٦) (كذبت عاد المرسلين. إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون) الشعراء ١٢٣’١٢٤ (كذبت ثمود المرسلين. إذ قال لهم أخوهم صالح) الشعراء: ١٤١, ١٤٢) (كذبت قوم لوط المرسلين. غذ قال لهم أخوهم لوط..) الشعراء: ١٦٠, ١٦١ .
كيف أثبت الله الإخوة لهؤلاء الرسل مع أقوامهم مع تكذيبهم لهم وكفرهم بهم؟ لأنهم كانوا منهم فهم إخوتهم من هذه الناحية فهى أخوة قومية, ولذا قال عن شعيب في نفس السورة (كذب أصحاب الأيكة المرسلين. إذ قال لهم شعيب ألا تتقون) الشعراء: ١٧٦, ١٧٧ وذلك أنه لم يكن منهم وإنما كان من مدين ولذا قال في سورة أخرى (وإلي مدين أخاهم شعيبا) هود:٨٤ وإذا أثبت القرآن هذه الأخوة القومية بين الرسل وأقوامهم فلا حرج أن نثبت أخوة وطنية بين المسلمين ومواطنيهم من الأقباط في مصر , أو أمثالهم في البلاد الإسلامية الأخرى.
ولا يكون ذلك سببا للطعن في عقيدة الإخوان وأنهم لا يعرفون الولاء والبراء في عقيدتهم بل يكون هذا من حسن فقه الإخوان وفهمهم عن الله ورسوله مالا يفهم الآخرون.
تكفير الحكام:
وأما اتهام الإخوان بأنهم لا يسارعون ب (تكفير الحكام) الذين لا ينفذون شرع الله ولا يحكمون بما أنزل الله ويتهاونون في ذلك ممالاة للحكام ومداهنة في الدين.
فيعلم الله, ويعلم المؤمنون ويعلم الناس أجمعون: كم لقى الإخوان من الحكام وكم بذلوا من تضحيات وكم قدموا من شهداء , وكم أضاعوا أعمارهم سنوات وسنوات في سجون الحكام ومعتقلاتهم, وكم ارتوت السياط من دمائهم ,أكلت الآلات من لحومهم وسحقت أدوات التعذيب من عظامهم. سواء في ذلك الحكومات الملكية , والحكومات الجمهورية والحكومات في عهد الليبرالية اليمينية, والحكومات في عهد الثورية الاشتراكية اليسارية فليس الإخوان هم الذين يتهمون بالمداهنة في الدين أو الممالاة للحكام.
ولكن الإخوان لهم أصول يرجعون إليها في تقويم الحكام, وفي الحكم عليهم وعن هذه الأصول يصدرون وعلي أحكامها ينزلون ولا يحرفونها من أجل ظلم الحكام لهم وانتهاكهم لحرماتهم وسفكهم لدمائهم , وأكلهم لأموالهم بالباطل.
ومن هذه الأصول: أن التكفير قضية لها خطرها ويترتب عليها آثارها , ولا يجوز التساهل فيها وإلقاء الأحكام علي عواهنها دون الاعتماد علي الأدلة القاطعة والبراهين الناصعة. فإن الذي نحكم عليه بالكفر: نخرجه من الملة ونسلخه من الأمة ونفصله عن الأسرة ونفرق بينه وبين زوجه وولده, ونحرمه من موالاة المسلمين ونجعله عدوا لهم, وهم أعداء له. وأكثر من ذلك: أن جمهور الأمة يحكمون عليه بالقتل , فهو محكوم عليه بالإعدام الأدبى بالإجماع وبالإعدام المادى بالأكثرية.
لهذا قال الأستاذ البنا في آخر أصل من أصوله العشرين:
“ لا تكفر مسلما أقر بالشهادتين ,وعمل يمقتضاها برأى أو معصية إلا إذا أنكر معلوما من الدين بالضرورة أو كذب صريح القرآن, أو فسره تفسيرا لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال, أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر”.
والتضييق في التكفير هو اتجاه المحققين من علماء الأمة من جميع المذاهب.
ولنا رسالة موجزة مركزة حول (ظاهرة الغلو في التكفير) بينا فيها حقائق مهمة حول هذا الأمر الخطير الذي أسرفت فيها بعض الجماعات في عصرنا فكفرت الأمة أو كادت. كفرت الحكام لأنهم لم يحكموا بما أنزل الله وكفرت الجماهير لأنهم سكتوا علي الحكام بدعوى أن من لم يكفر الكافر فهو كافر وجهل هؤلاء أن هذا إنما هو في الكافر الأصلي المعلوم كفره بالضرورة مثل الملاحدة والوثنيين والمحرفين من أهل الكتاب وغيرهم.
وقد عرض الإمام ابن القيم لتكفير الحكام في كتابه (مدارج السالكين) ونظر في قوله تعالي (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة:٤٤) وكان مما قاله في تأويلها:
" فأما الكفر فنوعان: كفر أكبر, وكفر اصغر.
فالكفر الأكبر هو الموجب للخلود في النار.
والأصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود... كما في قوله صلي الله عليه وسلم في الحديث:“ اثنتان في أمتى هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة” وقوله في السنن:“ من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله علي محمد” وقوله: لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وهذا تأويل ابن عباس وعامة الصحابة في قوله تعالي ك (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) المائدة:٤٤ قال ابن عباس “ ليس بكفر ينقل عن الملة, بل إذا فعله فهو به كفر, وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر” وكذلك قال طاووس وقال عطاء:“ هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق”.
ومنهم: من تأول الآية علي ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا له. وهو قول عكرمة وهو تأويل مرجوح فإن جحوده كفر سواء حكم أو لم يحكم.
ومنهم: من تأويلها علي ترك الحكم بجميع ما أنزل الله. قال ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام وهذا تأويل عبد العزيز الكناني وهو أيضا بعيد إذ الوعيد علي نفي الحكم بالمنزل وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه.
ومنهم: من تأويلها علي الحكم بمخالفة النص تعمدا من غير جهل به ولا خطأ في التأويل. حكاه البغوى عن العلماء عموما.
ومنهم: من تأويلها علي أهل الكتاب. هو قول قتادة والضحاك وغيرهما وهو بعيد وهو خلاف ظاهر اللفظ فلا يصار إليه.
ومنهم: من جعله كفر ينقل عن الملة.
والصحيح: أن الحكم بغير ما أنول الله يتناول الكفرين, الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم فإنه إن أعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر اصغر وإن اعتقد أنه غير واجب وأنه مخير فيه, مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر ز وإن جهله وأخطأه فهذا مخطئ له حكم المخطئين.
قال ابن القيم: والقصد: أن المعاصى كلها من نوع الكفر الصغر فإنها ضد الشكر الذي هو العمل بالطاعة. فالسعى إما شكر وإما كفر وإما ثالث لا من هذا ولا من هذا. والله أعلم (أ. هـ.
آيات الصفات وأحاديثها:
وأما الموضوع الذي آثار لغطا كبيرا فهو ما يتعلق بموقف الإخوان مما سمى (آيات الصفات وأحاديث الصفات) فقد عرض الأستاذ البنا عليه رحمه الله وضوانه – لها في موضعين أساسيين:
أولها: في الأصول العشرين من رسالة التعاليم. وذلك في الأصل العاشر وفيه يقول:
" معرفة الله تبارك وتعالي وتوحيده وتنزيهه: أسمى عقائد الإسلام وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يليق لذلك من المتشابه: نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء ويسعنا ما وسع رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من ربنا) (آل عمران:٧)
وثانى الموضعين: في رسالة (العقائد) التي كتبها مقالات في سنة ١٩٣٢, أى بعد تأسيس الإخوان بثلاث سنوات وكان في العشرينات من عمره. ورغم أن الرسالة موجزة فقد عرض للموضوع بالتفصيل المناسب ولا بأس أن نذكر أهم عناصره هنا.
مذاهب لناس حول آيات الصفات وأحاديثها:
ذكر الأستاذ البنا أن الناس انقسموا في هذه المسألة علي أربع فرق أو أربعة مذاهب.
مذهب المشبهة:
١- الفرقة الأولي: فرقة أخذت بظواهر هذه النصوص كما هى , ونسبتها إلي الله تعالي: وجها كوجوه الخلق, يدا أو أيديا كأيديهم وضحكا كضحكهمّ! وهكذا حتى فرضوا الإله شيخا وبعضهم فرضه شابا! وهؤلاء هم المجسمة والمشبهة وليسوا من الإسلام في شئ وليس لقولهم نصيب من الصحة.
ويكفي في الرد عليهم قول الله تبارك وتعالي (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) الشورى: ١١ وقوله تعالي (قل هو الله أحد. الله الصمد لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد) الإخلاص ١:٤
مذهب المعطلة:
٢- والفرقة الثانية: فرقة عطلت معانى هذه الألفاظ علي أى وجه يقصدون بذلك نفي مدلولاتها مطلقا عن الله تبارك وتعالي , فالله تبارك وتعالي لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر لأن ذلك لا يكون إلا بجارحة والجوارح يجب أن تنفي عنه سبحانه فبذلك يعطلون صفات الله تبارك وتعالي ويتظاهرون بتقديسه وهؤلاء هم المعطلة. ويطلق عليهم بعض علماء تاريخ العقائد الإسلامية: الجهمية ولا أظن أن أحدا عنده مسكه من عقل يستسيغ هذا القول المتهافت! وها قد ثبت الكلام لبعض الخلائق بغير جارحة فكيف يتوقف كلام الحق تبارك وتعالي علي الجوارح؟! تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا.