فلما كان تلميذه الشيخ الإمام محمد عبده – العالم الأزهري المتمكن – بدأت المدرسة تتضح معالمها الشرعية أكثر, وتستبين سماتها وملامحها بثقافة الشيخ محمد عبده الشرعية المستنيرة التى تنزع نزعة عقلية, وكأنها تجمع بين محافظة الأشاعرة وتحرر المعتزلة. وكان الشيخ المصرى أميل من أستاذه الأفغاني إلى التنوير العقلي منه إلى التغيير السياسي.
ثم جاء تلميذ الشيخ عبده: العلامة الإمام محمد رشيد رضا فضم إلى علم شيخه علوم أهل الأثر, ولا سيما علم الإمامين المجددين: ابن تيمية وابن القيم, وتبحر الشيخ فى علوم السنة, وفقه السلف , ومعارف العصر وبهذا أخذت مدرسة الإصلاح فى (الانضباط) أكثر وأكثر وأصبحت ترجع إلى الأدلة الشرعية فى كل قضية وتوازن بينها في غير تعصب ولا جمود وتنتهي إلى الرأي الذي يجمع بين السلفية والتجديد حقا.
والشيخ حسن البنا مشى على نهج الشيخ رشيد, واقتفى أثره, وإن بدأ فى بعض الأحيان أقرب إلى التشدد كما فى قضايا المرأة والشورى والتعددية ونحوها, ولا ننسى أن (المدرسة العقلية) التى يمثلها الشيخ جمال الدين, والشيخ محمد عبده متهمه عند جمهور أهل العلم من المسلمين بالانبهار بالحضارة الغربية إلى حد الإسراف فى تأويل النصوص القطعية مسايرة للفكر الغربى.
والمنصف يرى بينا فى كلام الشيخ محمد عبده عن قصة آدم وعن الملائكة فى سورة البقرة وعن الطير الأبابيل فى سورة الفيل. وهو تأويل غير سائغ, حتى إن الدكتور طه حسين أنكر تأويل الطير الأبابيل بميكروبات مرض الجدرى وما شابه ذلك لبعده عن النسق القرآنى, والأسلوب العربى.
ومن العدل أن نقول: أن الشيخ رشيد – وإن نقل عن شيخه – لام يتبنه ولم يدافع عنه أو يؤيده.
وربما رأى بعض أهل الفكر أن الشيخ جمال الدين كان أكثر تحررا من الشيخ محمد عبده, وأن الشيخ محمد عبده كان أكثر تحررا من الشيخ رشيد وأن الشيخ رشيد كان أكثر تحررا من الشيخ البنا.
وقد يكون هذا صحيحا وربما عبر عن هذا بتعبير آخر, وهى أن الشيخ محمد عبده كان أقرب إلى الانضباط بأصول الشرع من شيخه الأفغاني, وكذلك كان الشيخ رشيد رضا بالنسبة لشيخه محمد عبده وكذلك الشيخ البنا بالنسبة لشيخه رضا.
وهذه أمور نسبية قد تختلف من شيخ إلى آخر, ومن بيئة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر, ولكن المهم أن روح هذه المدرسة قائم, وهو الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر وبين النقل الصحيح والعقل الصريح وبين النص الجزئي والمقصد الكلى للشريعة وأنها تستلهم الماضي وتعايش الحاضر وتستشرف المستقبل.
كما أن دعوة البنا لم تكن مقصورة على (النخبة) بل كان من مزاياها أنها تخاطب كل الشعب بكل فئاته من الخاصة والعامة والنخب والجماهير وربما كانت الجماهير فيها أوضح, كما بين ذلك د. اسحاق الحسينى فى دراسته عن الإخوان.
ولا ننسى أن الأستاذ البنا قد توفى, وهو ابن الثالثة والأربعين, وكان عقله مرنا متفتحا, قابلا للتجدد والتطور, ولم يكن رحمه الله جامدا ولا مغلقا كما يبدو من تراثه ومن مواقفه المختلفة. ولقد بدأ صوفيا وانتهى اقرب إلى السلفية, أو انتهى إلى (صوفية متسلفة) أو (سلفية متصوفة) . وكذلك بدأ بالعموميات, ثم بدأ فى أواخر حياته بالخوض فى بعض التفصيلات كما فى كتابه (مشكلاتنا فى ضوء النظام الإسلامي) ففيه عرض لنظام الحكم ونظام الاقتصاد وغيرهما.
وأستطيع أن أقول: إن روح مدرسة البنا هى الوسطية التى تقوم على التكامل والتوازن والاعتدال, دون غلو ولا تفريط , ولا طغيان ولا خسارة كما فى قول الله تعالى ألا تطغوا فى الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان
إن الإمام حسن البنا أنسأ هذه المدرسة الفكرية الحركية الدعوية ولكنه لم يجمدها ولم يحنطها ولم يحجر على أحد من أبنائها أن يجتهد, وأن يبدع وإن خالفه فى اجتهاده فلم يدع هو لآرائه وأفكاره القداسة أو العصمة, بل قال فى الأصل السادس من أصوله العشرين التى جعلها أساسا لوحدة الفهم عند العاملين لخدمة الإسلام:“ كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم, موافقا للكتاب والسنة قبلناه, وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالإتباع ولكنا لا نعرض للأشخاص – فيما اختلف فيه – بطعن أو تجريح ونكلهم إلى نياتهم وقد أفضوا إلى ما قدموا”.
فإذا كان يسعنا أن نخالف السلف على فضلهم فخلافنا للخلف مقبول وللمحدثين والمعاصرين أولى.
ومدرسة حسن البنا تسع المختلفين من أهل الفكر, وإن كان بعضهم أقرب من بعض إلى الخط الأصلي للحركة وبعضهم أبعد.
فلا عجب أن وجدنا فى مصر وفى غيرها ممن الأقطار العربية مفكرين متفاوتين فيما بينهم فى التوسعة والتضييق, وفى المرونة والتشديد مثل محمد الغزالي وسيد قطب فى مصر ومصطفى السباعي وسعيد حوى فى سورية وحسن الترابى ومعارضيه فى السودان, وراشد الغنوشي ومعارضيه فى تونس وغيرهم وغيرهم.
وأنا شخصيا قد اجتهد فى قضايا لم ألتزم فيها تماما برأى الإمام البنا وأنا أعلم أنه استقر عينه بذلك فقد كان يسره أن يرى أتباعه أحرار يفكرون ويجدون لا أسارى أو عبيدا يقلدون.
وعلى هذا الأساس اجتهدت فى قضايا الديمقراطية والتعددية وترشيح المرأة للمجالس النيابية, والتعامل مع غير المسلمين وغيرها: اجتهادات قد تخالف اجتهاد إمامنا الشهيد. وأحسب – والعلم عند الله – أنه لو امتد به العمر وعايش ما عايشنا لغير اجتهاده فى كثير من القضايا, كما قال أصحاب أبى حنيفة فى بعض ما خالفوا فيها إمامهم: لو عاش حتى رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا, لقال بمثل ما قلنا! وأحمد الله تعالى أن جماعة الإخوان المسلمين قد تبنت فى سنواتها الأخيرة كثيرا من المفاهيم والآراء لتى اجتهدت فيها وناديت بها مثل قضية التعددية والمرأة. وصدر عن مكتب الإرشاد للإخوان بيانان أو قرران واضحان فى ذلك, يمكن مراجعتها فى ملاحق هذا الكتاب.
وقد قال ذلك الأستاذ البنا فى الأصل الخامس من أصوله العشرين حل العمل برأى الإمام (ولى الأمر) ومجالاته وشروطه وأكد أنه قد يتغير بتغير الظروف والأوضاع شأ، كل رأى أو اجتهاد بشرى فلابد أن يتأثر بالزمان وبالمكان ومجال الإنسان حتى قالت مجلة الأحكام العدلية فى إحدى موادها: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان.
وقد تحدث الأستاذ البنا فى بعض رسائله عن سعة التشريع الإسلامى وإن الإسلام وضع من القواعد الكلية ما يترك للمسلم بابا واسعا فى الانتفاع بكل تشريع نافع مفيد لا يتعارض مع أصول الإسلام ومقاصده وأثاب على الاجتهاد بشروطه وقرر قاعدة المصالح المرسلة واعتبر العرف واحترم رأى الإمام.
بل نقرأ فى رسائل الإمام البنا الكلمات الرائعة المعبرة عن فقه عميق لرسالة الإسلام, ويتجاوز مؤثرات الزمان والمكان, ولا يحصر الإسلام فى فهم عصر معين أو بيئة معينة فنحجر بذلك ما وسع الله ونعسر ما يسر الدين يقول رحمه الله فى (رسالة المؤتمر الخامس) الشهيرة
“ يعتقد الإخوان المسلمون: أن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدا. وإن كثيرا من الآراء والعلوم التى اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التى أوجدتها والشعوب التى عاصرتها ولهذا يجب أن نستقى النظم الإسلامية, التي تجمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي, معين السهولة الأولى وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم وأن نقف عند هذه الحدود الربانية حتى لا نقيد أنفسنا ما يقيدنا الله به, ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه والإسلام دين البشرية جميعا”.
هذه فقرة تعبر أبلغ التعبير وأصدقه عن توجه حسن البنا, وسعه أفقه وعمق فهمه لدينه, وأن النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة فى عصرنا يجب ألا نستقيها من فقه عصر معين أو بلد معين, أو مذهب معين أو كتاب معين, أو مدرسة معينة من مدارس الفقه أو الفكر بل استقاؤها من (معين السهولة الأولى) على حد تعبير الأستاذ: أى من نصوص القرآن والسنة , كما كان يفهمها الصحابة والتابعون, وقد كانوا افقه الناس لمقاصد الشريعة وروح الإسلام وأكثر الناس تيسيرا على عباد الله وأبعدهم عن التشديد والتعقيد والتعسير مع وجوب الاستفادة من فقد كل العصور وكل البلدان وكل المذاهب والمدارس دون تعصب ولا التزام بما يلزمنا الله به.
اعتراف ونقد ذاتى:
ولا أنكر أن في حركة الإخوان في بعض الأحيان وفي بعض القطار ولدى بعض الأفراد القيادات أحيانا: ميلا إلى التشدد تأثرا بالمدارس الأخرى التي لها وجود في الساحة الإسلامية ويظهر هذا في البقاء على القديم ومقاومة التجديد أو الميل إلى الآراء المتشددة التي تنظر إلى النصوص الجزئية وتغفل المقاصد الكلية أو التي تأخذ دائما بالأحوط وتأخذ بالأيسر رغم حاجة الناس إليه ولكن هؤلاء لا يمثلون – اليوم – التيار الغالب في الحركة.
وهذا ما دعاني في بعض كتبي: (انظر كتابنا (أولويات الحركة الإسلامية ص ١٠١-١٠٦ نشر مكتبة وهبه.