وليس البيتان بمعروفين وأمّا الموضع الآخر ل (دون) فأن تكون بمعنى: حقير أو مسترذل، فقال: هذا دونك، أي: هذا حقيرك ومسترذل. كما تقول: ثوب دون، إذا كان رديئا، وجائز أن يكون دون الذي في المرتبة والمنزلة المستعمل ظرفا محمولا على هذا الرفع، لأنك إذا جعلته في مكان أسفل من مكانه على التمثيل صار بمنزلة أسفل وتحت، وهما يجوز رفعهما على التنكير على أن أسفل اسم متمكن إذا كان نقيض أعلى، تقول: هذا أسفل الحائط وهذا أعلاه، كما تقول: هذا رأسه وهذا آخره.
قال سيبويه: (وليس كل موضع يحسن أن يكون ظرفا). وذكر الفصل.
فإنه يريد أنهم لا يقولون: هو جوف الدار وخارجها كما تقول: هو خلفك لأن خلف للأماكن التي تلي الأسماء من أقطارها إلى غير نهاية، لأن خلفك وقدامك وأقطارك كلها لا غاية لها، وجوف الدار وخارجها بمنزلة البطن والظهر، لأنه جزء من الدار وجزء من حدودها، وكما لا تكون الدار ظرفا، فكذلك أجزاؤها، فإن لم ترد هذا وأردت الجهة كان ظرفا، فقلت: زيد ناحية الدار، أي جهة الدار وقصد الدار، وكذلك هو ناحية من الدار، لأن هذا ليس بجزء من الدار، بل هو جهة غير الدار.
ثم بيّن سيبويه أن ما كان من المجرور، فهو خارج عن الظرف كما يخرج المرفوع عن الظرف أنك تقول: زيد وسط الدار بتسكين السين، فيكون ظرفا، ثم تقول: هو في وسط بتحريك السين، فيصير اسما كقولك: ضربت وسطه، وقطعت وسطه، فهذا بيّن من فصلهم بينهما في بنية اللفظ، وقوله: (واعلم أن الظروف بعضها أشد تمكنا من بعض في الأسماء نحو: القبل والقصد والناحية)، وذكر الفصل.
قال المفسر: فإنه يعني أن القبل والقصد والناحية استعملت في الأسماء أكثر من استعمال الخلف والأمام والتحت، فلذلك كثر الرفع وقوي وتمكن في الخلف استعماله ظرفا، وقل في الاسم، وقد جاء من ذلك ما تقدم ذكره في
الكلام والشعر، فالكلام قولك:
خلفك أوسع من قدّامك وأمامك أضيق ونحوه، وأنشدوا لحسان:
نصرنا فما تلقى لنا من كتيبة
… يد الدهر إلا جبرئيل أمامها (1)
ومما يقوي النحو والقبل في الاسمية إذا قلت: نحي نحوك، وأقبل قبلك أنها لا تتسع