للزجاج والحصا طعماً ورائحة وَأَن لقشور الْعِنَب رَائِحَة وَأَن للفلك طعماً ورائحة وَهَذَا إِحْدَى عجائب الدُّنْيَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمَا وجدنَا لَهُم فِي ذَلِك حجَّة غير دَعوَاهُم أَن الله تَعَالَى خلق كل حر نجده فِي النَّار عِنْد مسنا إِيَّاهَا وَكَذَلِكَ خلق الْبرد فِي الثَّلج عِنْد مسنا إِيَّاه وَكَذَلِكَ خلق الزَّيْت عِنْد عصر الزَّيْتُون والعصير عِنْد عصر الْعِنَب وَالدَّم عِنْد الْقطع وَالشّرط
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا تعلقوا من هَذَا بحواسهم فَمن أَيْن قَالُوا أَن للزجاج طعماً ورائحة وللفلك طعماً ورائحة وَهَذَا مَوضِع تشهد الْحَواس بتكذيبهم فِي أَحدهمَا وَلَا تدْرك الْحَواس الآخر وَيُقَال لَهُم لَعَلَّ النَّاس لَيْسَ فِي الأَرْض مِنْهُم أحد وَإِنَّمَا خَلفهم الله عِنْد رؤيتكم لَهُم وَلَعَلَّ بطونكم لَا مصارين فِيهَا ورؤوسكم لَا أدمغة فِيهَا لَكِن الله عز وَجل خلق كل ذَلِك عِنْد الشدخ والشق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَول الله تَعَالَى يكذبهم إِذْ قَالَ تَعَالَى {يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا على إِبْرَاهِيم} فلولا أَن النَّار تحرق بحرها مَا كَانَ يَقُول الله عز وَجل {قل نَار جَهَنَّم أَشد حرا لَو كَانُوا يفقهُونَ} فصح أَن الْحر فِي النَّار مَوْجُود وَكَذَلِكَ أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نَار جَهَنَّم أَشد حرا من نارنا هَذِه سبعين دَرَجَة وَقَالَ تَعَالَى {وشجرة تخرج من طور سيناء تنْبت بالدهن وصبغ للآكلين} فَأخْبر أَن الشَّجَرَة تنْبت بهَا وَقَالَ تَعَالَى {وَمن ثَمَرَات النخيل وَالْأَعْنَاب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا} فصح أَن السكر والعصير الْحَلَال مَأْخُوذ من التَّمْر وَالْأَعْنَاب وَلَو لم يَكُونَا فيهمَا مَا أخذا مِنْهُمَا وَقد أطبقت الْأمة كلهَا على إِنْكَار هَذَا الْجُنُون وعَلى القَوْل هَذَا أحلى من الْعَسَل وَأمر من الصَّبْر وأحر من النَّار وَنَحْمَد الله على السَّلامَة
الْكَلَام فِي الاستحالة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد احْتج الحنيفيون وَمن وافقهم فِي قَوْلهم إِن النقطة من الْبَوْل وَالْخمر تقع فِي المَاء فَلَا يظْهر لَهَا فِيهَا أثر أَنَّهَا بَاقِيَة فِيهِ بجسمها إِلَّا أَن أجزاءها دقَّتْ وخفيت عَن أَن تحس وَكَذَلِكَ الحبر يرحى فِي اللَّبن فَلَا يظْهر لَهُ فِيهِ اثر وَكَذَلِكَ الْفضة الْيَسِيرَة تذاب فِي الذَّهَب فَلَا يظْهر لَهَا فِيهِ أثر وَهَكَذَا كل شَيْء قَالُوا لَو أَن ذَلِك الْمِقْدَار من المَاء يجبل مَاء النقطة من الْخمر تقع فِيهِ لَكَانَ أَكثر من ذَلِك الْمِقْدَار أقوى على الإحالة بِلَا شكّ وَنحن نجد كلما زِدْنَا نقط الْخمر وقلتم أَنْتُم قد استحالت مَاء وَنحن نزيد فَلَا يلبث أَن تظهر الْخمر وَهَكَذَا فِي كل شَيْء قَالُوا فظهرت صِحَة قَوْلنَا ولزمكم أَن كلما كثر المَاء ضعفت إحالته وَهَكَذَا فِي كل شَيْء
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَقُلْنَا لَهُم أَن الْأُمُور إِنَّمَا هِيَ على مَا رتبها الله عز وَجل وعَلى مَا تُوجد عَلَيْهِ لَا على قضاياكم الْمُخَالفَة للحس وَلَا يُنكر أَن يكون مِقْدَار مَا يفعل مَا فَإِذا لم يفعل ذَلِك الْفِعْل كالمقدار من الدَّوَاء ينفع فَإِذا زيد فِيهِ أَو نقص مِنْهُ لم ينفع وَنحن نقر مَعكُمْ بِمَا ذكرْتُمْ وَلَا ننكره فَنَقُول أَن مِقْدَار إِمَّا من المَاء يحِيل مِقْدَار مَا يلقى فِيهِ من الْخلّ أَو الْخمر أَو الْعَسَل وَلَا يحِيل أَكثر مِنْهُ مِمَّا يلقى فِيهِ وَنحن نجد الْهَوَاء يحِيل المَاء هَوَاء حَتَّى إِذا كثر الْهَوَاء المستحيل من المَاء بل أحَال الْهَوَاء مَاء وَهَكَذَا كل مَا ذكرْتُمْ وَإِنَّمَا الْعُمْدَة هَا هُنَا مَا شهِدت بِهِ أَوَائِل الْعُقُول والحواس من أَن الْأَشْيَاء إِنَّمَا تخْتَلف باخْتلَاف طبائعها وصفاتها الَّتِي مِنْهَا تقوم حُدُودهَا وَبهَا تخْتَلف فِي اللُّغَات أسماؤها فللماء صِفَات وطبائع إِذا وجدت فِي جرم مَا سمى مَاء فَإِذا عدمت مِنْهُ لم يسم مَاء وَلم يكن مَاء وَهَكَذَا كل مَا فِي الْعَالم وَلَا تحاشي شَيْئا أصلا وَمن الْمحَال أَن تكون حُدُود المَاء وَصِفَاته وطبعه فِي الْعَسَل أَو فِي الْخمر وَهَكَذَا كل شَيْء فِي الْعَالم فأكثره يَسْتَحِيل بعضه إِلَى بعض فَأَي شَيْء وجدت فِيهِ حُدُود شَيْء مَا سمي باسم مَا فِيهِ تِلْكَ الْحُدُود إِذا استوفاها كلهَا فَإِن لم يسْتَوْف إِلَّا بَعْضهَا وَفَارق أَيْضا شَيْئا من صِفَاته الذاتية فَهُوَ حِينَئِذٍ شَيْء غير الَّذِي كَانَ وَغير الَّذِي مازج كالعسل الْملقى فِي الأبارج ونقطة مداد فِي لبن وَمَا أشبه ذَلِك وَهَذِه رُتْبَة الْعَالم فِي مُقْتَضى الْعُقُول وَفِيمَا تشاهد الْحَواس والذوق والشم واللمس وَمن دفع هَذَا خرج عَن الْمَعْقُول وَيلْزم الحنيفيين