لو أكل يسيراً منها وتصدق بباقيها جاز ولو تصدق بيسير منها وأكل باقيها جاز، فأما مقاديرها في الاستحباب ففيه قولان:
أحدهما: قاله في القديم _ يأكل ومدخر ويهدي النصف ويتصدق على الفقراء بالنصف؛ لأن اثه تعالى قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} الحج: 28 فجعلها في صنفين فاقتضى أن تكون بينهما نصفين.
والثاني: _ قاله في الجديد _ أن يأكل، ويدخر الثلثء ويهدي الثلث، ويتصدق على الفقراء بالثلث لقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} الحج:36 فذكر ثلاثة أصناف فاقتضى أن تكون بينهم أثلاثاً.
وأما الفصل الثاني: وجوبها واستحبابها، فلا يختلف المذهب أن الادخار مباح وليس بواجب ولا مستحب وأن الهدية ليست بواجبة وهي مستحبة، فأما الأكل والصدقة فقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه:
أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج، وأبي سعيد الإصطخري أنهما مستحبان فإن أكل جميعهما جاز وان تصدق بجميعها جاز لقول الله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى} الحج: 37 فجعل مقصودها التقوى بعد الإراقة دون الأكل والصدقة.
ولأنه لما كان لو أكل أكثرها كان جميعها أضحية كذلك إذا أكل جميعها.
والثاني: وهو قول أبي الطيب بن سلمة: أن الأكل والصدقة واجبان، فإن أكل جميعها لم يجزه، وان تصدق بجميعها لم يجزه حتى يجمع بين الأكل والصدقة لقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} الحج: 28 فجمع بينها وأمر بهما فدل على وجوبهما ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر في حجة مائة بدنة، وأمر علياً أن يأتيه من كل بدنة ببضعة ثم أمر بها فطبخت فأكل من لحمها، وحسا من مرقها، فلما أكل من كل بدنة مع كثرتها دل على وجوب أكله منها.
والثالث: وهو مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابنا _ أن الأكل مستحب والصدقة واجبة، فإن أكل جميعها لم يجزه وان تصدق بجميعها أجزأه لقول الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} الحج:36 فجعلها لنا، ولم يجعلها علينا، فدل على أن أكلنا منها مباح، وليس بواجب، ولأن حقوق الإنسان هو مخير فيها بين الاستبقاء والإسقاط.
ولأن موضوع القرب بالأصول أنها مستحقة عليه وليست مستحقة له.
ولأن قوله تعالى في الضحايا: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} الحج: 28 جار مجرى قوله في الزكاة: {كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الأنعام:141. فلما كان أكله مباحاً والإيتاء واجباً كذلك الأكل من الأضحية مباح والإطعام واجب.