التخصيص جليٌّ وبعد التخصيص خفيٌّ. والرابع: وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أن لمطلق العموم صيغة توجب النظر والاجتهاد في أدلة تخصيصه، فإن وجد ما يخصه استعمل باقية بعد تخصيصه وإن لم يوجد ما يخصه أُجري على عمومه، ولا يجوز استعماله قبل النظر، ولا يصير مجملاً بعد التخصيص؛ لأنه قبل النظر والاجتهاد يتكافأ الاحتمال، وبعد إمعان النظر والاجتهاد يترجح الاستعمال، وليس لزمان الاجتهاد والنظر وقت مقدر وإنما هو معتبر بما يؤديه الاجتهاد إليه من الرجاء والإياس.
واعلم أن أدلة التخصيص تؤخذ من أحد أربعة أصول؛ الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. فأما تخصيص الكتاب كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} البقرة: 228، لأنه خص منه المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الأحزاب: 46 الآية.
97/ أ وأما تخصيه بالسنة كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} المائدة: 38، خصه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع في أقل من ربع دينار". وأما تخصيص الكتاب بالإجماع فإن قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} النساء: 11 خصه الإجماع بأن العبد لا يرث، وخصته السنة في أن القاتل والكافر لا يرثان، فصار بعضها مخصوصًا بالسنة وبعضها مخصوصًا بالإجماع.
وأما تخصيصه بالقياس مثل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} النور: 2 الآية، ثم خص الأمة بنصف الحد بقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} النساء: 25. ثم خص العبد بنصف الحد قياسًا على الأمة، فصار بعض الآية خصوصًا بالقياس. ويجوز تخصيص العموم بالقياس الجلي، وفي جواز تخصصه بالقياس الخفي وجهان، فإن عدم المجتهد أدلة التخصيص من أحدد هذه الأصول الأربعة جاز القياس على الخصوص في العموم، ولم يجز القياس على الباقي من العموم، مثاله أن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} المائدة: 38 الآية، لما خص منه من سرق من ثمر أو كثر في سقوط القطع عنه، لم يجز أن نقيس على قطع السارق قطع من ليس بسارق، وجاز أن نقيس على التمر والكثر سارق غير التمر والكثر في سقوط القطع عنه.
والفرق بينهما أن العموم لما ضعف عن حكم استيفاء اسمه قوي معناه عن اجتذاب غيره، والمخصوص لما قوي حكمه عن استيفاء اسمه قوي معناه على اجتذاب غيره.
والقسم الثاني: المجمل والمفسر: فالمفسر هو الذي يفهم منه المراد، والمجمل هو الذي ما لم يفهم منه المراد، ومثله في الكتاب قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الأنعام: 141، وقوله تعالى: 97/ ب {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} البقرة: 43. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني