دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
فإن قيل: كيف جاز خطابهم بما لا يفهمونه من المجمل؟ قلنا: إنما جاز لأحد أمرين:
أحدهما: ليكون إجماله توطئة للنفوس على قبول ما يتعقبه من البيان، فإنه لو بدأ في تكليف الصلاة والزكاة ببيانهما جاز أن تنفر النفوس منهما ولا تنفر من إجمالها.
والثاني: أن الله تعالى جعل من الأحكام جليًا، وجعل منها خفيًا، ليتفاضل الناس في العمل بها، ويثابوا على الاستنباط لها، وكذلك جعل منها مفسرًا جليًا، وجعل منها مجملاً خفيًا.
ثم اعلم أن المجمل ضربان: أحدهما: أن يقع الإجمالي في الاسم المشترك كالقرء ينطلق على الطهر والحيض، والشفق على الحمرة والبياض، فإن اقترن تنبيه أخذ به، وإن تجرد عن تنبيه أخذ به وإن تجرد واقترن به عرف عمل عليه، وإن تجرد عن تنبيه وعرف وجب الاجتهاد في المراد منها، وكان من خفي الأحكام التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط، فصار داخلاً في المجمل لخفائه وخارجًا عنه لإمكان استنباطه.
والثاني: الإجمالي في الحكم المبهم.
وهو ضربان: أحدهما: ما كان إجماله في لفظه، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} البقرة: 43، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الأنعام: 141.
والثاني: ما كان إجماله بغيره، مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} البقرة: 275 والربا صنف من البيوع، فصار به الباقي من البيوع مجملاً على قول كثير من أصحابنا. 98/ أ وقال بعضهم، وهو عموم خص منه الربا، ومثاله من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً"، وكلا الضربين مجمل يفتقر إلى بيان يفهم به المراد.
فإن قيل: التعبد بمثل هذا الخطاب قبل بيانه؟ قلنا: يلزم لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا - رضي الله عنه - إلى اليمن، وقال له: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن أجابوك فأعلمهم أن في أموالهم حقًأ يؤخذ من أغنيائهم فيرد في فقرائهم" فتعبدهم بالتزام الزكاة قيل بيانها، وفي كيفية تعبدهم بالتزامه وجهان:
أحدهما: أنهم متعبدون قبل البيان بالتزامه بعد البيان.
والثاني: أنهم متعبدون قبل البيان بالتزامه مجملاً، وبعد البيان بالتزامه مفسرًا.
ثم اعلم أن البيان يختلف باختلاف المجمل وهو ضربان: أحدهما: ما وكل العلماء إلى اجتهادهم في بيانه من غير سمع يفتقر إليه، مثل قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ