والثاني: ما علم بالاستدلال، مثل تقدير أقل الحمل بستة أشهر بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} الأحقاف: 15، دل بقوله حولين على أن الباقي من ثلاثين شهرًا هو أقل الحمل.
فهذه الضروب الأربعة ونظائرها محكمة غير متشابهة.
وأما المتشابه في الأحوال فضربان: أحدهما: ما تولجت فيه إشارة يحتمل الاستدلال بها كقوله تعالى في الكلالة: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} النساء: 12 الآية، فسأل عمر - رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال: "تكفيك آية الصيف"، يعني قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} النساء: 176، الآية، وإنما سماها آية الصيف؛ لأنها نزلت في الصيف، فلم يزده في البيان على الرد إلى الإشارة.
والثاني: ما تجرد عن الإشارة كالحروف المفردة في القرآن، مثل قوله تعالى: {الم} و {كّهيعص}، فكانت على احتمال مشتبه غير أن المراد في الضرب الأول خفي، وفي هذا الضرب مبهم، وكلاهما من المتشابه.
وأما المتشابه في حال والمحكم في حال فضربان؛ أحدهما: العموم إذا خص.
والثاني: المجمل إذا فسر، هما قبل البيان من المتشابه وبعد البيان من المحكم.
104/ب وأما المحكم من وجه والمتشابه من وجه فضربان: أحدهما: أن يكون المتشابه في الموجب والمحكم في الواجب، مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} الأنعام: 151، فالحق هو السبب الموجب وهو من المتشابه، وإباحة القتل هو الواجب وهو من المحكم.
والضرب الثاني: أن يكون المحكم في الموجب والمتشابه في الواجب، كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الأنعام: 141، فالسبب الموجب هو استحصاد الزرع وهو من المحكم، والحق المؤدى هو الواجب وهو من المتشابه.
وأما القسم السادس: فهو الناسخ والمنسوخ؛ والنسخ: هو رفع ما ثبت حكمه بالشرع دون العقل؛ لأن واجبات العقول لا يجوز نسخها بشرع ولا عقل. والنسخ مختص بالأحكام المشتملة على الأوامر والنواهي دون الأخبار؛ لأن نسخ الخبر مفضي إلى دخول الكذب في ناسخه ومنسوخه، ونسخ الحكم إنما هو العلم بانقضاء مدته، وهو مأخوذ في اللغة من نسخ المطر الأثر إذا أزاله، فسمي في الشرع نسخًا لزوال الحكم به، كما سمي به نسخ الأحكام الشرعية؛ لأنها معتبرة بالمصالح.
وقد تختلف المصالح باختلاف الأزمان، فيكون المنسوخ مصلحة في الزمان الأول دون الثاني، ويكون الناسخ مصلحته في الزمان الثاني دون الأول، فيكون كل واحد منهما مصلحة في زمانه وحسنًا في وقته وإن تضادا، ولا يكون بداء ورجوعًا فيستقبح كما زعم قوم من اليهود؛ لأن البداء هو الرجوع فيما تقدم من أمر ونهي، والنسخ هو أمر بالشيء في وقت ونهي عنه في وقت فافترقا.