والثالث: أن ينعقد عن الاستفاضة والانتشار، كالإجماع على أعداد الركعات وترتيبها في الركوع والسجود.
والرابع: أن ينعقد عن العمل به، كالإجماع على نُصب الزكوات.
والخامس: أن ينعقد عن المناظرة والجدال، كإجماعهم على قتال ما نعى الزكاة.
والسادس: أن ينعقد عن توقيف، كإجماعهم أن الجمعة تسقط فرض الظهر.
والسابع: أن ينعقد عن استدلال وقياس، كإجماعهم على أن الجواميس في الزكاة كالبقر. فإن تجرد الإجماع عن دليل يدعو إليه ووجد الاتفاق عليه فهل يصح وينعقد؟ قال جماعة من أهل العلم: يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: 122/ ب "ما رأه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن". وهذا قول من جعل الإلهام دليلًا.
وقال الجمهور: لا يجوز أن ينعقد إلا بدليلٍ؛ لأن إثبات الشرع بغير دليل لا يجوز، ولأن اتفاق الكافة بغير سبب لا يوجد. وإذا انعقد الإجماع عن أحد أدلته، فهل يقطع بصحته؟ وجهان:
أحدهما: أنه يقطع بصحته لقيام الحجة به.
والثاني: أن الإجماع غير معصومٍ عن السهو والغلط اعتبارًا بأهله في انتفاء العصمة عن آحادهم، فكذلك عن جماعتهم، ولا يكون قيام الحجة موجبًا لعصمته، كما تقوم الحجة بخبر الواحد وإن كان غير معصومٍ.
وأما ما ينعقد به الإجماع فانعقاده معتبرٌ بأربعة شروطٍ:
أحدها: أن يعتبر فيه قول الخاصة من أهل العلم دون العامة، لقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} آل عمران: 18، فخص أهل العلم بهذه المنزلة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء". وروي أن أبا طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- خالف الصحابة وقال: البرد لا يفطر الصائم؛ لأنه ليس بطعامٍ ولا شرابٍ. فردوا قوله ولم يعتدوا بخلافه؛ لأنه كان من عامة الصحابة دون علمائهم.
والثاني: يعتبر فيه قول علماء الأمصار كلهم. وقال مالك رحمه الله: الإجماع معتبر بأهل المدينة وهذا باطل؛ لأن الأحكام مستنبطة من الكتاب والسنة لا من الأمكنة، وقد قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} النساء: 59، ولم يأمر برده إلى أهل المدينة.
والثالث: أن لا يظهر في أحدهم الخلاف فيه، فإن تظاهر أحدهم 123/ أ بخلافٍ، فإن كان يدفع خلافه نصٌّ كان خلافه مرتفعًا والإجماع بغيره ينعقد، كما خالف ابن مسعود -رضي الله عنه- الصحابة في الفاتحة والمعوذتين ولم يجعلهن من القرآن، فلا يعتد بخلافه لوجود النص، وقد انعقد الإجماع على أنهن من القرآن. وكما